لحظة يا زمن... المساح رحل عنا

محمد المساح- النداء٢٠٢٤
محمد المساح- النداء٢٠٢٤

بادر الكثير من الأصدقاء والزملاء والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، بنشر خبر رحيل الكاتب والصحفي الكبير والأديب والمثقف والجميل الأستاذ محمد المساح، وترحم عليه الكثير من اليمنيين -وحتى السياسيين الذين بعضهم إن لم يكن معظمهم قد تتلمذوا على يديه وتعلموا من كتاباته وأخلاقه ومواقفه الكثير والكثيرـ قبل ان ينسى أو يتناسى معظمهم هذه القامة الفكرية الشامخة، وهذا القلم الحر الذي فضل الانحياز إلى الفقراء والفلاحين والعمال والبسطاء من أبناء شعبه، ورفض كل مغريات السلطة وترغيباتها، وصمد أمام كل تهديداتها لسنوات طويلة، حتى رحل إلى رحاب ربه زاهدًا عن كل مغريات الحياة، مفتقرًا إلى ربه، ومحتسبًا إلى مولاه بفيض رحمته، وبما تركه من أثر بالغ في قلوب الناس، ومن بصمات فكرية وثقافية وأدبية سيقتفي أثرها الكثير من الأجيال القادمة الباحثة عن حقيقة الانتماء للوطن وللقيم الإنسانية العظيمة التي لا تطاولها مشاريع الأحزاب والطوائف والجماعات ذات المشاريع الطبقية والمناطقية والسلالية والجهوية.

نعم كانت "حملة رحيل الأستاذ المساح" (إن جاز التعبير بهذا الوصف) بادرة طيبة وجميلة، وبالطبع ليست الأولى، فهي تتكرر دائمًا مع رحيل أية شخصية وطنية وعلمية وفكرية جامعة ترحل عنا، وتنتهي بعدها بساعات أو أيام قليلة، دون أن تحدث لدى الكثير منا تساؤلات عديدة ينبغي أن نتوقف أمامها، والتي من أهمها:
ـ ما الذي جناه الراحل من كل هذه الأصوات المعبرة عن حزنها عليه رغم رقي وتميز عبارات وجمل وكلمات النعي لدى الكثير ممن كتبوا؟
- أين كانت كل تلك الأصوات خلال فترة معاناة الراحل، وقد كان الكثير منا على علم بتفاصيل تلك المعاناة، لا سيما المسؤولين من أصاحب القرار أو القريبين من مراكز القرار، ومن الذين كان لبعضهم إمكانية التخفيف من حجم تلك المعاناة من خلال إنصاف الرجل أو إعطائه بعض ما يستحقه، إن لم يكن كل ما يستحقه من تكريم ومكانة وحقوق ظل يتابع بعدها ويطالب بها خلال سنوات عمره الأخيرة؟

بالأمس رحل الأستاذ المساح، وعرف الكثير من الناس مكانة الرجل في قلوب كل من عرفه وعاشره وتعامل معه، تمامًا مثلما كان يعرف الكثير منا حجم معاناته، ومدى التهميش الذي تعرض له من قبل السلطات المتعاقبة نظير مواقفه السياسية والوطنية، والتي كان آخرها نزوحه القسري إلى قريته، واعتزاله الناس، وصراعه المرير مع ظروف الحياة المعيشية في قريته ومسقط رأسه، متسلحًا بشموخه وعزة نفسه، منشغلًا برعي عدد بسيط من الأغنام التي كان يملكها.

رئاسة الوزراء ووزارتا الإعلام والثقافة ونقابة الصحفيين اليمنيين واتحاد الأدباء والكتاب، وغير ذلك من الجهات ذات الصلة، والتي كان للراحل الفقيد محمد المساح دور بارز في خدمتها أو تأسيسها أو قيادتها أو إثراء إنتاجاتها في مراحل نشاطه وسنوات عمله الأولى... جميعهم كانوا على علم ودراية بالأوضاع التي عاشها الكاتب الكبير المساح، وكيف عاش سنواته الأخيرة في عزلة، متعففًا عن الدنيا، وزاهدًا عما في أيدي الناس.. عاش معاناته بصمت وكبرياء، دون أن يتوسل أحدًا أو يعلق آماله على أحد من الخلق. ورغم كل التضحيات والجهود التي قدمها الراحل في سنوات خدمته للوطن والإنسان، تجاهله الكثير من رفاقه وزملائه، وحتى تلاميذه الذين تعلموا منه وأخذوا من أفكاره وإبداعاته وإسهاماته الثقافية والأدبية، وتناسى الكثير منا أهمية الرجل ومكانته في الوسط الصحفي والإعلامي والثقافي والأدبي (والأحق وللإنصاف يجب أن نستثني من كل هؤلاء اثنين من رفاقه -حسب علمي- ظلا مستمرين بالتواصل معه، وكانا حلقة الوصل الوحيدة بينه وبين محبيه، وكنا نلمس منهما فيض المشاعر تجاهه والوفاء له، وفي السنوات الخمس الأخيرة كنا نعرف من خلالهما أخباره ومعاناته وتفاصيل أيامه الأخيرة، لأنهما لم ينقطعا عنه يومًا، وهما الأستاذان القديران عبدالباري طاهر وعبدالرحمن بجاش)... ليستفيق الجميع على خبر موته، وعنوان رحيله الذي كان حاضرًا بقوة في عبارات نعيه، والتعبير عن الحزن لرحيله من الدنيا. لحظة يا زمن.

وأخيرًا، يبقى السؤال الأهم، والذي يجب أن يعرفه الجميع: ماذا بعد كلمات النعي ومشاعر الحزن على فراق أستاذنا الكبير والقدير محمد المساح؟ وهل بالإمكان أن يستجيب الزمن إن ناديناه وقلنا: لحظة يا زمن... المساح رحل عنا..؟