أولويات أمريكا القاتلة للقضية الفلسطينية

لأن العرب، ومنهم الفلسطينيون، قلوب شتى، ويعانون من تلبد في الرؤية، ومن ضعف سياسي ومؤسسي، وفجوة في الثقة وفي التفاعل بين الحاكم والمحكوم، تتسع ولا تضيق، ترى أمريكا أنه برغم علم العرب الأكيد بتواطئها وبشراكتها الكاملة في حرب الإبادة الجماعية في غزة،
في الأشهر الستة المنصرمة، وازدواجية مواقف أمريكا إزاء القانون الدولي وحقوق الإنسان، وعدم وجود خطوط حمراء أمامها لطرحها باستقلال عن تل أبيب، فإن الوقت مناسب لها وحدها لطرح موضوع التطبيع مع العربية السعودية، القاطرة التي ستجر بعدها بقية العرب والمسلمين. سيمنح التطبيع إسرائيل جائزة كبرى على جرائمها في غزة، ويسوي الملعب العربي كله لإسرائيل لكي تكون لاعبًا محليًا في كل دولة عربية يوفر لها موطئ قدم للتدخل المباشر، وإذكاء الفتن، وحتى تهميش الدور الأمريكي إن لم يكن الاستغناء عنه، والمشاركة في صناعة القرارات العربية القُطْرية.

تركيز أمريكا على التطبيع كأولوية إسرائيلية، ليس بالجديد، ولكن الجديد أنها تسلك سلوك الآمر لحدوثه، وهي تفعل ذلك بدون حياء، والفلسطيني في غزة والضفة يواجه تحديات مصيرية غير مسبوقة في أن يكون أو لا يكون. وألا يكون هو مبتغى تل أبيب وواشنطن، ودعوكم من الرشوة الأمريكية المبتذلة للعرب عن تأييد أمريكا لمسار أعمى يقود إلى دولة فلسطينية. ولنتذكر مسار السياسة الأمريكية الذي يواصل انحداره وتماهيه مع رغبات تل أبيب.

بعد هزيمة 1967 لم تستنكر بدايات الاستيطان وهدم الحي المغربي، وإعلان إسرائيل توحيد القدس. وفي مؤتمر مدريد عام 1991، اختلف الموقف الأمريكي قليلًا عن الموقف الإسرائيلي، ونتذكر عبارة لوزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر، بعد ما شاهده من تعنت إسحاق شامير، وزير خارجية العدو: "إذا أرادت تل أبيب الاتصال به، فهذا هو رقم هاتف مكتبه".

اليوم توحد موقف واشنطن مع موقف تل أبيب، بأن الأراضي الفلسطينية أراضٍ غير محتلة. وإليكم بعض مواقف واشنطن التي تعتبر هذه الأراضي المحتلة غير محتلة.

1. في 8 أكتوبر 2022، تحدثت الخارجية الأمريكية عن الضفة الغربية كعادتها، بدون ذكر أنها محتلة، كما تفعل الأمم المتحدة وبقية الدول، عندما عبرت عن قلقها إزاء تدهور الأوضاع الأمنية فيها.

2. في ديسمبر 2022، صوتت أمريكا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ضد قرار أيد بأغلبية ساحقة حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. إن دلالة التصويت أن أمريكا لا ترى أن الشعب الفلسطيني شعب محتل ومؤهل لحق تقرير المصير، أي أنها تؤيد الحكم الذاتي الذي تجمع عليه كل القوى السياسية في دولة الاحتلال.

3. أثناء مداولات محكمة الجنايات الدولية لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة، أنكرت أمريكا أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب. وفي فبراير 2024، طلبت من المحكمة أخذ أمن إسرائيل في الاعتبار، في تجاهل متعمد لأمن العرب جميعًا.

4. في 29 مارس 2024، سفّه ماثيو ميلر، الناطق باسم الخارجية الأمريكية، تقرير السيدة فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الأممية للأراضي الفلسطينية المحتلة، الذي وثقت فيه دلائل اقتراف إسرائيل إبادة جماعية في غزة، ووصف عملها بغير المثمر، وأنه معادٍ للسامية.

إن الزيارات المتكررة للرياض، وإعلان أن هدفها الوحيد هو التطببع، في ظل دعم أمريكي مفتوح لإسرائيل للتدمير والقتل والتشريد في غزة، مقلق، ويعد قمة الاستهانة بالحقوق الفلسطينية، ولا مبالغة في القول بأنه يرقى إلى الإهانة المتعمدة لكل مؤيدي قضية فلسطين من عرب وعجم. إن الموقف الطبيعي هو عدم فتح الأبوب السعودية وغير السعودية لمن يساند من لانزال نعتبره عدوانًا، وإغلاق باب الحوار معه حول التطبيع، حتى يتوقف العدوان على غزة والضفة، وتعلن إسرائيل عن قبولها غير المشروط للمبادرة العربية التي حولتها هي وواشنطن إلى جثة هامدة. بعد ذلك لا مانع من أن تتزامن خطوات التطبيع السعودية وغير السعودية، مع خطوات قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967 كاملة.

إن من دوافع الإصرار على التطبيع ليس فقط الولاء الأمريكي لإسرائيل، بل مساعدة الرئيس بايدن على الفوز في الانتخابات أمام تحدي سلفه ترامب، وتقديم منجز انتخابي للصوت الصهيو-مسيحي، وإضافة بصمة رئاسية أمريكية أصبحت تقليدية إلى سجل التاريخ الأسود لرؤساء أمريكا الذين حرصوا منذ الرئيس ترومان من أجل انتخابهم أو إعادة انتخابهم، على إضافة منجز جديد يقوي دولة الاحتلال، ويضعف القضية الفلسطينية تمهيدًا لتصفيتها. بايدن يعلم أن السياسة الخارجية ليست قضية انتخابية، ولكن في ما يتصل بمصالح دولة الاحتلال الاستراتيجية والتوسعية، يصبح الحديث مختلفًا.

وبعد تنفيذ الرئيس ترامب عام 2020، لقرار الكونغرس الصادر عام 1980، لنقل سفارة بلاده إلى القدس الغربية المحتلة، عام 2020 (محتلة بموجب قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، الذي نص على وضع خاص للقدس كلها)، لم يعد في جعبة واشنطن سوى استكمال دائرة التطبيع، مع التركيز على العربية السعودية التي لن تقبل بكل تأكيد بمقايضة القضية الفلسطينية باتفاقية أمنية وبمفاعل نووي للأغراض السلمية تستطيع بسهولة الحصول عليه من روسيا أو الصين أو فرنسا كصفقة تجارية وفق معاهدة عدم الانتشار النووي لعام 1968، بدون ضغوط، وبدون إضعاف للدور السعودي العربي والإسلامي. لايزال الظن حسنًا بالسعودية بأنها لن تفرط بفلسطين، ولن تقبل بضغوط أمريكا وبجزرتها، وبخاصة أنها هي صاحبة المبادرة العربية التي تعلم أنها غير مرحب بها كثيرًا من قبل الشعوب العربية. وإذا كانت المبادرة العربية قرارًا عربيًا ملزمًا، فليكن التطبيع عربيًا، وليس بالانتقاء الأمريكي، ووفق جوهرها، وليس لقبرها، ووضع العربة أمام الحصان.