قراءة حول شاعر العرب الرمز "أبو الطيب المتنبي"

يسعدني أن أقدم بكل سرور الشاعر أحمد بن الحسين الملقب بالمتنبي -شاعر العرب الرمز- لحضرة القراء الكرام الشغوفين بالشعر والأدب العربي على النحو الآتي:

ولد "أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفي الكندي" الملقب بـ"أبي الطيب المتنبي"، في حي كندة، وهي محلة في الكوفة، (915-965 ميلادية/ 303-354 هجرية)، وجده جعفي، وبنو جعفي قبيلة من "اليمن" تنتسب إلى "مذحج"، ويعتبر أعظم الشعراء العرب في كل العصور، وأحد مفاخر الأدب العربي، والمعروف عنه في الموسوعات البحثية الأدبية أنه "مالئ الدنيا وشاغل الناس" بعبقريته الفذة، وملكته الشعرية المتقدة التي شملت جميع الأغراض، والفنون الشعرية: الحكمة، والفلسفة، والوصف، والمدح، والفخر، والهجاء، والملحمة، والرثاء.

حقًا، إنه سفر ضخم من مخزون شعري، وفروسية تجلت خلال اثنين وأربعين عامًا قضاها في مقارعة الخطوب، ومجالس الأدباء والشعراء، والنحويين، وفقهاء اللغة، متنقلًا بين الكوفة والبصرة، وبغداد (منهل العلم وصقل المواهب)، ثم إلى البادية، واللاذقية، وحلب، ثم رحلة الإياب عن طريق دمشق، ومصر، وبادية الشام، مواصلًا رحلته إلى العراق، وفارس، وأخيرًا عودته إلى العراق، قاصدًا الكوفة مسقط رأسه، واستشهاده غدرًا قبل وصوله هناك في الـ28 من رمضان 354 للهجرة، الموافق 965م، في سن "الحادية والخمسين"، قتل المتنبي على يد "فاتك بن أبي جهل الأسدي"، بزعم هجاء ابن أخته "ضبة بن يزيد العتيبي" سيئ السمعة، وأقتبس ما يلي:- "يعرف عن "ضبة" أنه قاطع طريق، وغدار بكل من نزل به، فاعترضه بنو كلاب يومًا، وقتلوا أباه، ومر عليه أبو الطيب المتنبي مع جماعة من أهل الكوفة، فأقبل ضبة يجاهر بشتمهم وسبهم، فأراد رفاق أبي الطيب المتنبي الرد عليه، فقال قصيدته:

ما أنصف القوم "ضبة"/ وأمه الطرطبة
وأخبث الناس أصلًا/ في أخبث الأرض تربة
يا قاتلًا كل ضيف/ غناه ضيح وعلبة
وأرخص الناس أما/ تبيع ألفًا بحبة

يعتبر الكثير من الرواة أنها ابيات منسوبة إلى المتنبي، كونها لا ترقى إلى مستوى شاعر كبير مثل المتنبي، والبعض من الرواة من يقول إنها للمتنبي قالها في سن مبكرة، والهدف من كل ذلك تشويه سمعة "المتنبي".

والأمر في أساسه عبارة عن مؤامرة حيكت للتخلص منه. تعددت الروايات حول مقتله، فمنهم من قال إن الذي قتله هو الأمير "معز الدولة البويهي" الذي دعاه لزيارته، ويقال إنه أظهر استخفافًا به، وبوزيره "ابن العميد المهلبي" عند زيارته لهما في "شيراز"، بعد عودته من مصر، وقيل أيضًا إن "أبا الطيب المتنبي" حرض ضدهما، واستهزأ بالعجم، الأمر الذي جعل من "معز الدولة البويهي -أمير شيراز" يستعين ببني أسد "فاتك بن أبي جهل الأسدي"، لثأر سابق مع المتنبي، وبالتنسيق مع "كافور الأخشيدي" الذي بذل كثيرًا من المال للتخلص من "أبي الطيب المتنبي"، بسب هجائه له يوم رحيله من مصر عندما يئس "المتنبي" منه في الظفر بولاية كان وعده بها قبل وصوله مصر. ومن الرواة من قال إنه كان يفكر بحكم "ولاية مصر" كعربي، في زمن لم يعد يحكم فيه سوى ولاة من غير العرب، بعد أن انهارت الخلافة العباسية بانتهاء العهد العباسي الذهبي الأول (132-232 هجرية، الموافق 750-847 ميلادية).

يقال في وفاته، إنه تم نصب كمين له وهو عائد مع ابنه، وغلامه، في معركة غير متكافئة، حيث فاجأهم "الأسدي" بثلاثين من الفرسان أجهزوا على "أبي الطيب المتنبي"، وابنه، ورفيقه، في منطقة "الرملة -العراق"، ونهبوا كل ما كانوا يحملونه من شيراز. ومنهم من قال إن الثلاثة قتلوا في منطقة "الصافية" شرقي دجلة، في 354 هجرية الموافق 956 ميلادية، ومن الرواة من قالوا قتل ابنه أولًا في المعركة، فحاول أن ينقذ نفسه ومرافقه إلى معركة أخرى، إلا أنه أبى أن يغادر ساحة المعركة عندما قال له رفيقه:
أما أنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ

قال له المتنبي: قتلتني يا غلام، وقتلت نفسك، فاستمر ورفيقه في الميدان، فقتلا معًا شهيدين. وتعتبر كما يصفها كثير من النقاد رواية ضعيفة، لأنه في ذلك الزمن لا يوجد تصوير ولا تسجيل ما يثبت تلك الرواية سوى من الجانب المعادي، والبدهي قتل الثلاثة في معركة غادرة لا فرار فيها من الأعداء، والهدف من إشاعة مقتله هو أن يظهروا أن "أبا الطيب المتنبي" جبان، وليس كما كان يفتخر بنفسه كفارس همام في معارك سيف الدولة الحمداني حامي الثغور العربية ضد العلوج الروم.

وحسب نقاد وشعراء أكدوا أن كل الروايات المتضاربة التي قيلت عن مقتله، وبالطريقة التي حاكوها ضده، غير منطقية، والأصح أنه قتل في الكمين بعد أن دافع عن نفسه في معركة غير متكافئة.

وفي هذا السياق، قرأت كتابًا بعنوان "مع المتنبي"، للأستاذ الدكتور طه حسين الذي شغل نفسه باقتباس أبيات من شعر المتنبي، ألفها في سن المراهقة (13-19 سنة)، ونال منه بالنقد غير المرغوب فيه، بينما جعل من الشاعر والفيلسوف الضرير "أبي العلاء المعري" (973-1057م) المولود في "معرة النعمان -شمال حلب"، مثله الأعلى، متناسيًا أو غاب عنه، محبة "المعري" لـ"أبي الطيب المتنبي"، مثله الأعلى في الشعر وفقه اللغة، وهو من استشهد بأحد أبيات شعر "أبي الطيب المتنبي"، مفتخرًا به:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
وكان المعري يردد قائلًا:
أنا هو الأعمى الذي قصده المتنبي في شعره.

ورد أيضًا في كتب تاريخ الأدب قصة أبي العلاء المعري الذي أقبل من مسقط رأسه في مدينة "معرة النعمان" شمال الشام، إلى "بغداد"، حيث حضر مجلس "الشريف المرتضى أبي القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد الموسوي من علماء الشيعة، الملقب علم الهدى"، والمولود في بغداد (355-436 هجرية، الموافق 966-1044 ميلادية).

كان للشريف المرتضى مجلس علم وأدب، يرتاده شعراء، ونحويون، ونقاد، وأدباء، وكتاب... وقد سمع "المعري" منهم في المجلس نقدًا غير مناسب عن "المتنبي"، فانبرى لهم قائلًا يكفي المتنبي شعرًا، أنه قال هذه القصيدة، التي مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازلُ
أقفرت أنت وهن منك أواهلُ
أمر الشريف المرتضى فورًا بسحب "أبي العلاء المعري" إلى خارج المجلس، مما أثار استغراب الحاضرين، وبادرهم "الشريف المرتضى" بالقول إن هذا الخبيث يقصد من القصيدة البيت الـ39، وهو:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كاملُ
ومن اعتزاز المعري بالمتنبي شاعر العرب الرمز، قيامه بجمع مؤلفاته، في ديوان أو دواوين، وبكل فخر واعتزاز.
وفي هذا الصدد، أشاد الكثير من الشعراء، واللغويين، والنحويين، والرواة في كل العصور، بالمتنبي الشاعر الرمز، أذكر منهم في العصر الحديث:
- أمير الشعراء أحمد شوقي
- شاعر النيل حافظ إبراهيم
- الجواهري الشاعر العراقي
- الأستاذ الدكتور شوقي ضيف، أستاذ اللغة العربية والأدب العربي في جامعة القاهرة في الستينيات من القرن الماضي.
وشعراء وأدباء وكتاب في المهجر، والشام... الخ.
كما أجمع الكثير من الشعراء والمؤرخين، والأدباء، والرواة، والمستشرقين على أن "أبا الطيب المتنبي" شاعر كل الأزمان لمن سبقه أو جاء بعده من الشعراء، ويتميز عنهم بأنه أكثر تمكنًا في فقه اللغة العربية بقواعدها ومفرداتها، كما أنه ترك وراءه مخزونًا شعريًا كبيرًا في كل فنون وأغراض الشعر.

جوهر القول، عاش "أبو الطيب المتنبي" في سنواته الأولى، متجولًا بين بغداد عاصمة الخلافة العباسية، والكوفة، والبصرة، وبادية الشام، واستقر به المقام في "حلب" عاصمة الدولة الحمدانية، بجانب الأمير سيف الدولة الحمداني... الخ.

وذاع صيته بين المهتمين في أوساط الآداب العربية، من بغداد إلى الشام، ومن شمال إفريقيا إلى قرطبة عاصمة الدولة الأموية في الأندلس، حتى الأزمنة اللاحقة وإلى يومنا هذا، وأخذوا يتناقلون إرثه الأدبي في شتى الأغراض الشعرية، وذائقته الفنية المبدعة، واعتبروا المتنبي منارة مشعة في سماء الشعر العربي ومضامينه، وأنه مصدر إلهام ووحي الشعراء، والأدباء، وعلم فقه اللغة.

ولكل قاعدة استثناء، فهناك من الكتاب والمؤرخين، ومعظمهم من المتعصبين، من يبحث عن شهرة أو لغرض في نفوسهم في محاولة تماديهم في نقد المتنبي، بأنه شاعر يكثر من التكسب، فضلًا عن تطاوله وادعائه النبوة، وأنه جبان، كل هذه تقولات لا أساس لها، فالمتنبي لا ينظر إلى ما يفكرون فيه، وبقي مترفعًا في زمانه وغير زمانه، ولي من التوضيح في هذا الشأن لاحقًا.

عاش الشاعر الثائر "أحمد بن الحسين بن الحسن الكندي" (أبو الطيب المتنبي) في القرن العاشر الميلادي، وتحديدًا في العهد العباسي الثاني (232-334 هجرية الموافق 847-946 ميلادية)، بعد أن أصاب مركز الخلافة الوهن، حيث سادت الشعوبية، والقرمطة، والموالي من العبيد والعجم، والأكراد، والمماليك عمومًا، واستولوا كقادة على مفاصل الدولة من إمارات، وولايات من العراق إلى فارس، ثم إلى الشام، ومصر، وشمال إفريقيا، واليمن، ولم تنجُ من قبضتهم سوى الإمارة العربية الوحيدة "الحمدانية" في شمال الشام، ومركزها "حلب"، بقيادة الأمير سيف الدولة الحمداني "علي بن أبي الهيجاء، 951-967 ميلادية)، الذي بقي يدافع عن الثغور العربية من العلوج الروم. أما العهد العباسي الثالث (1031-1258 ميلادية)، وبانتهائه كان زوال الخلافة العباسية بعد خمسة قرون، وبالتحديد 524 عامًا، وذلك باجتياح المغول (التتار) والقضاء على حضارة، وتراث العرب، ومؤلفاتهم في ميدان العلوم، والفلسفة، والشعر، والترجمة والفنون... الخ، وألقوها في نهر دجلة الذي تحول إلى سواد من حبر الكتب والمؤلفات، وانتهت الحضارة للأسف.

ومن هذا المنطلق، أعود مرة أخرى إلى الفارس والشاعر الرمز "أبي الطيب المتنبي" الذي حظي بمكانة رفيعة في بلاط سيف الدولة، مشاركًا معه كفارس وشاعر في الميادين كافة، وكل ذلك قد ورد في شعره بالتفصيل مدحًا، وفخرًا، ووصفًا، وفلسفة، وحكمة، واعتبر بعض الكتاب والمؤرخين لحقد غائر في نفوسهم أن ذلك تكسبًا، ولم يقولوا إن "المتنبي" كان يعيش في بذخ من العيش في بلاط سيف الدولة، ويكفيه فخرًا أنه يقف في المعارك بجانب سيف الدولة كفارس، وشاعر، دفاعًا عن الثغور العربية من العلوج الروم، وهو وإن مدح سيف الدولة إنما هو حبًا ودفاعًا عن الأمير العربي الوحيد الذي كان يحمي تلك الثغور من الروم في ذلك الزمن الرديء، ولم يكن متكسبًا كما يتقول أعداؤه.

وإذا لزم مني المقاربة، وكما يقال الشيء بالشيء يذكر، وددت أن أقدم أيضا الشاعر العباسي "أبا تمام -حبيب بن أوس بن الحارث الطائي"، المولود 803-845م، في "حوران -سوريا"، اعتنق الإسلام (من أبوين مسيحيين)، والذي كان له أيضًا في تاريخ سابق صولة وجولة في حماسه واعتزازه بعروبته، استقدمه الخليفة "المعتصم" آخر خلفاء العباسيين في العهد الذهبي العباسي الأول (132-232 هجرية الموافق 750-847 ميلادية) إلى مجلسه، وكانوا يسمونه أمير البيان، مدح الخليفة "المعتصم" وهو يحارب البيزنطيين في "عمورية"، في قصيدته المشهورة:
السيف أصدق إنباءً من الكتبِ
في حده الحد بين الجد واللعبِ
بيض الصفائح لا سود الصحائف
في متونهن جلاء الشك والريبِ
والعلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهبِ
يا يوم وقعة عمورية انصرفت
منك المنى حفلًا معسولة الحلبِ
رمى بك الله برجيها فهدمها
ولو رمى بك غير الله لم يصبِ
على صعيد آخر، إن مجلس "الأمير سيف الدولة الحمداني" كان يقصده مجموعة من فطاحل الكتاب والشعراء، والنحويين... الخ. معظمهم من العجم لا يرتاحون للمتنبي كعربي يحظى بتلك المكانة الأميرية، وكانوا يستمعون إلى كل ما يقول من القصائد لإظهار أي خطأ أمام "سيف الدولة"، فلم يجدوا ما يريدونه من أذية، لكنهم يشون به بأنه يتعالى بفخره بنفسه في معرض مدحه للأمير، وكان يسمعهم، ولا ينبس ببنت شفة، فكثرت مضايقة المتنبي دون ثنيهم من الأمير، وذات يوم في مجلس الأمير، ألقى المتنبي قصيدته الشهيرة المرتجلة، قبل مغادرته حلب، حيث حصلت ضجة من الحاضرين بسبب بيت من الشعر قاله "أبو الطيب المتنبي"، وكان رد الفعل التصرف المهين من قبل النحوي "ابن خالويه" الذي رماه بالمحبرة على رأسه في المجلس أمام الأمير سيف الدولة الذي كعادته لم يحرك ساكنًا، ومن الرواة من قال إن سيف الدولة رماه بالمروحة عندما صاح "ابن خالويه" أن المتنبي أخطأ في حق الأمير، بينما كان الأمير يدرك أنه لم يكن هو المقصود من هذه البيت، وإنما ابن خالويه وصحبه في المجلس:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدمُ
ومن ثم قال كلامًا موجهًا في نفس القصيدة إلى "سيف الدولة الحمداني":
يا يمن يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ
بالفعل، كثرت المشاكل، مما اضطره لمغادرة "حلب"، وتوجه إلى "دمشق" ثم إلى "مصر"، حيث امتدح فيها كافور الأخشيدي حاكم مصر بقصيدته المشهورة بقوله:
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
كان يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، ليس من أجل التكسب، وإنما كان يطمع بولاية كفارس عربي، وقد نبهه بعض أصدقائه ألا يقدم على شيء في هذا الشأن، رغم أن كافورًا وعده بولاية، فكل تحركاته كانت مرصودة، ووضع تحت المراقبة، وفي آخر المطاف تمكن المتنبي وابنه، وغلامه، من مغادرة مصر في يوم عيد الأضحى المبارك، حيث هجا كافور الأخشيدي يوم رحيله، بهذه القصيدة، قائلًا:
عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ
لأمر مضى أم فيك تجديدُ؟
لا تشترِ العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيدُ
وذاك أن الفحول البيض عاجزة
عن الجميل، فكيف الخصية السودُ؟
(الفحول البيض يقصد به سيف الدولة الحمداني).
ولم يكتفِ بهذه القصيدة، وإنما هناك قصيدة أخرى يهجو فيها كافورًا، قائلًا:
من أي الطرق يأتي مثلك الكرمُ
أين المحاجم يا كافور والجلمُ
سادات كل أناس من نفوسهم
وسادة المسلمين الأعبد القزمُ
بعد مصر، توجه "أبو الطيب المتنبي"، وابنه، ومرافقه، إلى العراق، مرورًا بالبادية، والتقى بالقرامطة الفرس، والأصح أنه التقى بالقرامطة في سني عمره الأولى (9-19 عامًا)، في بادية السماوة، حيث أطلقوا عليه لقب "المتنبي"، ليس لكونه "نبيًا"، وإنما كانوا يعتبرونه ذكيًا وصالحًا لاستقطابه كداعية لهم في فكرهم المتطرف، حيث عمموا الكلمة لأنه كان لهم تواجد كبير في المنطقة من البادية مرورًا بالأحساء، والبحرين ثم العراق وفارس واليمن، ومن قرأ قصيدة المتنبي "أرض نخلة"، اتهمه أنه يدعي النبوة حينما قال:
ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهودِ
أنا في أمة تداركها الله
غريب، كصالح في ثمودِ
اتهموا المتنبي بادعائه النبوة، في قصيدته "أهل نخلة"، وهي قرية لـ"بني كلب".. قرب بعلبك، يقول إن أهل هذه القرية أعداء له، كما كانت اليهود أعداء للسيد المسيح عليه السلام، وكصالح عليه السلام في ثمود، وبهذين البيتين قيل إنه شبه نفسه بهما.

حقيقة، فلا هو بالمتكسب، ولا هو بالنبي، ولا بالجبان.
هناك روايتان لسبب تلقيبه بالمتنبي، الأولى: أنه ادعى النبوة في بادية السماوة بداية شبابه، ولم يذكروا أن القرامطة من لقبوه بهذه التسمية لذكائه ونبوغه في الشعر وفقه اللغة، وأصلح من يستقطب لحدة ذكائه، ولم يكن يومًا ما يفكر بشيوع اللقب، وإنما هو إنسان وهبه الله الرفعة وعزة الشأن كغريب في زمانه.

والرواية الأخرى هي رواية الشاعر والفيلسوف "أبي العلاء المعري"، أنه لقب بالمتنبي كناية عن "النبوة" (بتشديد حرف النون بفتحة، وتسكين حرف الباء، وفتح حرف الواو)، وهي المكان المرتفع من الأرض. وربما أراد أبو العلاء أن يرفع من مقام المتنبي العروبي الثائر على أعدائه من العبيد والعجم.

حقيقة، إن "أبا الطيب المتنبي" شاعر من طراز فريد، شغل الناس في غزارة شعره المتألق بجزالة الألفاظ وغزارة المعاني في الوصف والحكمة والبيان، ولا عجب حين قال في إحدى قصائده مفتخرًا:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا
وفي قصيدة أخرى، يقول عن اللغة العربية:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصمُ
ويعتبر المتنبي الشاعر الذي أدخل الملحمة في شعره عندما كان يخوض معاركه مع سيف الدولة الحمداني ضد الروم، نقتبس بعض أبيات من قصيدته الدالة على الحس الملحمي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
يكلف سيف الدولة الجيش همه
وقد عجزت عنه الجيوش الخضارمُ
ويطلب عند الناس ما عند نفسه
وذلك ما لا تدعيه الضراغمُ
يفدي أتم الطير عمرًا سلاحه
نسور الفلا أحداثها والقشاعمُ
هل الحدث الحمراء تعرف لونها
وتعلم أي الساقيين الغمائمُ
سقتها الغمام الغر قبل نزوله
فلما دنا منها سقتها الجماجمُ
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا
وموج المنايا حولها متلاطمُ
وكان بها مثل الجنون فأصبحت
ومن جثث القتلى عليها تمائمُ
وقد استطاع "أبو الطيب المتنبي" أن يطوع شعره الملحمي في القصيدة دون تدخل أرباب، وآلهات، مثلما ذهب إليه كل من الشاعرين: "هوميروس" الإغريقي، و"فرجيل" الروماني.

من الجدير بالذكر، كان اليونانيون يرفعون مرتبة الشعراء المجيدين إلى آلهات، والرومان يرفعون شعراءهم إلى مرتبة الأنبياء، كما يرفع العرب شعراءهم إلى مرتبة عباقرة نسبة إلى وادي عبقر، وادي الجن عند العرب في إحدى بوادي أو شعاب اليمن، ويرمز هذا إلى التفوق والنبوغ في الشعر وفقه اللغة... الخ. الحديث ذو شجون.

وفي سياق الكلام، أود أن أواصل رحلة "أبي الطيب المتنبي" من مصر إلى العراق، وبعدها إلى شيراز (فارس) بناء على دعوة مقدمة له من "عضد الدولة البويهي"، حيث مر في "شعب بوان -طريق بين واديين"، وتفتقت قريحته بأجمل قصيدة عرفها الأدب العالمي بالوصف شعرًا، يسعدني أن أقدم بعض أبياتها للاستمتاع بأدبنا الجميل:
مغاني الشعب طيبًا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمانِ
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسانِ
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمانِ
طبت فرساننا والخيل حتى
خشيت وإن كرمنا من الحرانِ
غدونا ننفض الأغصان فيها
على أعرافها مثل الجمانِ
يقول لشعب بوان حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعانِ؟
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنانِ
هذا وصف أيضًا لما تعرض له العرب من كوارث، حيث أصبحت الخلافة مفككة نتيجة لأخطاء الخلفاء، واستسلامهم لقيادات العبيد، والأعاجم، وقد أصبح كل شيء غريبًا للعرب حتى الحصان الذي كان يمر في هذا الطريق إلى فارس تحت الحكم العربي (مستأنسًا) أصبح (غريبًا) عنه، وأكمل قصيدته تحسرًا وألمًا.

هذا هو المتنبي لمن أراد أن يعرف عنه كفارس، وأديب وفيلسوف، ولغوي وشاعر غيور على عروبته.
للأسف، كثر التجريح للمتنبي شاعر العروبة الرمز، والتعمد باختصار البعض شعره على قليل من الأبيات لأجل النقد. يقينًا، لم نعطه حقه كعرب مثل رموز الأمم الأخرى، وهذا يذكرني بقول المتنبي عن سقوط المجتمع العربي في المظهرية الهابطة للقيم:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم؟
يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ
جوهر القول، ترك المتنبي مخزونًا شعريًا كبيرًا يضاهي الـ326 قصيدة تناولت جميع الأغراض الشعرية، ومن عيون الشعر: الوصف، الفلسفة، الحكمة، المدح، الفخر، الملحمة، والرثاء، وتجاوزت آلافًا من الأبيات الشعرية الرصينة تضاهي في عدد أبياتها ملحمة "هوميروس" اليوناني، وكذا ملحمة "فرجيل" الروماني.

حقًا، إن سجل المتنبي عظيم، أثار اهتمام الشعراء، والنحويين، والمؤرخين والكتاب، والمستشرقين في كل زمان ومكان، إلا قلة من الأدباء، والباحثين من لا يعجبهم شخصية المتنبي لافتخاره بأصله وعروبته، فانقلب غلهم على أعماله الأدبية نتيجة لحقد دفين، وعنصرية مقيتة، وعصبية جاهلية.
حقًا، إن المتنبي رمز عربي خالد لا يكرم بالمستوى اللائق، فانظروا إلى الرموز الأخرى المعززين، المكرمين في أممهم على مدى الأزمان.
ويسعدني أن أقدم أولئك الرموز للاطلاع، على النحو الآتي:
"هوميروس، شاعر اليونان الرمز، كفيف البصر"
ولد عام 850 قبل الميلاد، كتب الملحمة الشعرية "الإلياذة والأوديسة"، عدد أبياتها 15.693 بيتًا، وهي عبارة عن "سفر من الأحداث في الميثولوجيا اليونانية"، كتبت على مراحل، وجمعت في القرن الثامن قبل الميلادي بعد قرن من وفاة الشاعر، تحكي عن الحرب الطروادية التي امتدت إلى عشر سنوات بين الأغريق، والطرواديين، تدخلت فيها آلهتهم -حسب معتقداتهم- مثل "زيوس" (رب الأرباب)، والآلهات، والمغامرات والأبطال، وتعد الملحمة سجل اليونان الأدبي.

"بوبليوس فرجيل، شاعر الرومان الرمز" (70 ق.م-19 ق.م)
عاش في عهد الإمبراطور أوغسطس، ولد بمانتوا شمال إيطاليا، ثم انتقل إلى روما، كتب ملحمته الشهيرة سماها "الإنياذة"، قصة "إينياس" الذي -وفقًا للميثولوجيا الإغريقية- هرب من طروادة بعد الحرب الطروادية بين "الإغريق" و"الطرواديين"، وفي النهاية وصل إلى إيطاليا حيث أسس أحفاده "روما".

تجدر الإشارة إلى أن "الإنياذة" للشاعر فرجيل، تم تأليفها على غرار ملحمة هوميروس "الإلياذة والأوديسة"، وكلها ملاحم بمثابة أساطير.
"أبو قاسم الفردوسي الطوسي، شاعر فارس الرمز" (935-1020م)
مؤلف "الشاهنامة" الشعرية، ولد في إقليم طوس، بخارستان.
"وليام شكسبير، كاتب دراما، وممثل، وشاعر الإنكليز الرمز" (1564-1616م)
من مواليد مدينة "ستراتفورد -أبون -آفون في إنكلترا، في مقاطعة ووركشير"، شاعر وكاتب له 38 مسرحية (دراما) شهيرة عالميًا، ومجموعة من القصائد الشعرية... الخ.

"روبندرونات طاغور، شاعر، ومسرحي، وروائي بنغالي" (1861-1941م)
ولد في القسم البنغالي من مدينة كلكتا، منح جائزة نوبل في الآداب على مؤلفاته وكتاباته الشعرية في المجالات المختلفة.

لم يسلم كل هذه الرموز من النقد والتجريح أيضًا، وأذكر هنا "وليام شكسبير" الذي نسبوا عمله الدرامي إلى الشاعر والدرامي "كريستوفر مارلو"، بل قال عنه اليهود إنه "الشيخ زبير" أو زهير (بقصد الاستخفاف به بأنه عربي معادٍ)، أو برواية أخرى أنه "ضد السامية"، ناشئًا عن كره وتشدد من المسيحيين الكاثوليك ضد اليهود حينذاك (أما في الوقت الراهن فقد حصل تطبيع بين الكنيسة والكنيس) بسبب عمله الدرامي "تاجر البندقية -أنطونيو" الذي كان من شخوصه البارزة اليهودي "شيلوك المرابي" المنافس الكبير للتاجر "أنطونيو" ذي السمعة الحسنة، والذي اقترض من "شيلوك" مالًا ليعيده له بعد عودته من الخارج، خلال ثلاثة أشهر، فغرقت السفينة والبضاعة، وأصر اليهودي على حقه في القصاص، معرضًا تاجر البندقية "أنطونيو" للموت بسبب إخلاله بصك بينهما رغم محاولات إنقاذه من المجتمع البندقي، وجاء الحكم في المرحلة الأخيرة لغير صالحه، حيث نص العقد أن يقطع "شيلوك" رطلًا من اللحم فوق عضلة القلب، وقد وافقت "بورشيا" زوجة صديقه الدوق "بسانيو"، والتي انتحلت شخصية القاضية، بقولها وبشرط ألا تسفك قطرة من الدم، وألا تزيد أو تنقص قطعة اللحم عن الرطل، حيث لم يذكر العقد ذلك الأمرين، فبهت "شيلوك اليهودي"، ولم يحصل على شيء، وانتصرت العدالة، وخاب المرابي.

فرغم ما حدث استمر "وليام شكسبير" عظيمًا ومصدر فخر الإنكليز والأمة البريطانية.

وبالمثل، تعرض كل أساطين الشعر، والأدب، المذكورين أعلاه، لنفس المضايقات... إلا أنهم كرموا، ونحتت لهم التماثيل، وأنشئت مؤسسات بأسمائهم في شوارع المدن، ذكرى لتمجيدهم في كل الأزمان، ماعدا شاعر الأمة العربية الرمز "أبي الطيب المتنبي" الذي بحق فاق نظراءه من أساطين الشعر، في تعددية الأغراض الشعرية، وفقه اللغة العربية المتشعبة بمفرداتها مقارنة بنظرائه المذكورين الذين ظلوا سنين لإكمال ملاحمهم وأعمالهم الأدبية.

والسؤال، لماذا نحن مقصرون كعرب في حق المتنبي كشاعر، وفارس، وأديب ملهم، ولغوي رمز يعتد به أمام رموز الأمم الأخرى؟ فهل انتقلت عدوى الخلافات بين الدول العربية لنسف الرموز والكنوز الأدبية، والثقافية، وكل شيء جميل، وتسييسها كعادتنا بين مؤيد ومعارض؟ أين الـ"أليكسو" ALECSO (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم)؟ وأين المنتديات لرموزنا العربية؟ أترك الردود لمن يهمه الأمر. والله ولي التوفيق.