الله يلعن الشيطان

الله يلعن الشيطان

*عبدالباري طاهر
حقيقة طالما أكد عليها المفكر الأمريكي نعوم شومسكي، وهي رفض «شيطنة الآخر». في بيئاتنا «الإسلاموية» التقليدية اتخذنا من الشيطان الرجيم مشجباً نعلق عليه أخطاءنا وزلاتنا، نكتفي بلعن الشيطان الرجيم ثم نلج في الخطيئة المرة تلو الأخرى، لكأن لعن الشيطان براءة ذمة، وتطهر من الإثم، وإلقاء التبعة على شيطان مصنوع من الإصرار العنود على «الجريمة».
شيطنة الآخر مرض عالمي. فالولايات المتحدة الأمريكية سواء في عهد ريجان أو بوش الابن، تشيطن الإسلام، وتجعل من الدول المختلفة معها، والمعادية لسياساتها الشيطان الرجيم.
ولم تكن إيران بأحسن حالاً من أمريكا في امتشاق سيف الشيطنة ضد الآخر المختلف، ولعل الاتجاهات «الإسلاموية»، سنية كانت أو شيعية، من أكثر الاتجاهات الفكرية والسياسية والدينية ولعاً بتحميل الشيطان، جنياً كان أو إنسياً، الأوزار والجرائم التي يقترفونها، ويحملون المختلف جرمها. فعندما تجعل من الآخر المختلف شيطاناً فأنت تصبح في سريرة نفسك مَلك، فتشعر بالزهو والاستعلاء.
كثيرون كتبوا عن هوس الشيطنة: نعوم شومسكي العالم الأمريكي التقدمي، وإدوارد سعيد المفكر العربي، والفليسوف الناقد دريدا.
والحقيقة أن العرب -أقصد الأنظمة والنخب السياسية وبعض المثقفين- أكثر إصابة وولعاً بداء «الشيطنة». المتتبع للصراعات العربية -العربية وعداواتها الداحسية والغبرائية، يعرف وبال مثل هذه «التهم» المدمرة للقيم والأخلاق والروابط الأخوية.
ولعل ما شهدناه مؤخراً بين الشقيقتين: مصر والجزائر، من تصارع من حول مباراة «رياضية» هدفها إبراز المهارات والقدرات بروح إنسانية شفافة وعالية، فاجع حد المقت. وقد استخدمت الرياضة وسيلة تلاقٍ وتحاور وبداية تواصل بين أمم وشعوب متقاتلة: الصين وأمريكا، أمريكا وإيران، ولكن السياسات العدائية والعدوانية بين الحكومتين قد اشتعلت حرباً جعلت من إسرائيل؛ الدولة العنصرية المعادية للأمة العربية، تتفجع متشفية من هول ما يجري بين بلدين عربيين شقيقين تجمعهما أواصر أخوة القومية والدين والمصير والتكوين النفسي العام، تتقاذف كرة الكرة والشتائم حد الإسفاف، وينخرط فيها أدباء ومثقفون مرموقون ورجال دين ومن كل الأطياف.
وربما كان اليمنيون أكثر إصابة بالداء مع العلم أن الزيدية كفرقة من فرق علم الكلام المعتزلي التي ترفض «القدر»، إلا أنها في الحقل السياسي تتشارك مع إخوتها في الطوائف الأخرى في توزيع «التهم» والثناء العاطر على النفس بتلطيخ سمعة الخصم.
فمنذ ثورة سبتمبر 62 وحتى اليوم لا تزال الإمامة الباغية الطاغية سبب محن اليمن ومعاناته التي يصنعها حكامنا اليوم.
بعد حرب 94 بين الشمال والجنوب، أو بالأحرى بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي، وبعد هزيمة الحزب الذي كان يحكم الجنوب، أصبح الجنوب «انفصالياً»، والحزب الاشتراكي سبب المآسي كلها حتى تلك التي صنعها أو يصنعها المؤتمر أو تشارك الحليفان في صنفها.
نماذج الشيطنة كثيرة في واقع شعبنا وأمتنا العربية، فما إن يقع خلاف بين هذا الشطر وذاك حتى تقوم الدنيا ولا تعقد، وحتى داخل شطر أو قبيلة أو حتى أسرة، وأحياناً بين الأفراد الأصدقاء أو الإخوة، فما إن يظهر خلاف ما من حول أية قضية من القضايا حتى تندلع الحرب الكلامية المسعرة، ويصبح كل واحد منهما في نظر الآخر شيطاناً مريداً. وقد تمتد لسنوات وربما العمر كله.
للأمر علاقة بالتركيبة البدائية وبالقيم القبلية والبدوية النزاعة للتصارع والتقاتل في كل شيء وعلى كل شيء، وربما أضفى العجز والقهر والغبن الاجتماعي وعدم القدرة على صنع الحياة والتجديد فيها، ومواجهة التحديات المفروضة مزيداً من الإيغال في رمي الشيطان. وللحكيم المصري أبيات شعرية ينذر فيها من رمي الشيطان. فالشيطنة خرافة ممتدة وعميقة في النفس البشرية، ولها علاقة بالمعتقد، وخطورتها أن تتضمن تزكية النفس، والبراءة من الإثم المقترف، وتلبيسه الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، والآية صريحة في الإشارة للناس «الموسوسين» والمسوسين.
تحية من أعماق القلب لهؤلاء العظماء والعمالقة: للأستاذ الجليل محمد عبدالله الفسيل أحد الصناع العظام للحركة الديمقراطية، وفي أوائل دعاة الدسترة والحرية في اليمن كلها. لقد كنت أيها الفسيل عظيماً وكدأبك وعادتك في الرسائل الموجهة للرئيس والمنشورة في الوسط، فمن أمثالك تعلمنا.. ومن أمثالك تتعلم الأجيال القامة. فأنت المثل والقدوة الحسنة.
تحية لهشام باشراحيل الصحفي الفادي، ولابنه محمد ورفاقهما من المتضامنين معهم ضحايا «غزوة» كريتر التي يتصنعها المهووسون بالفتن والحروب، وقمع المواطنين ومصادرة حرياتهم.
تحية حب وعرفان وتبريك لاستأذنا الجليل الدكتور عبدالعزيز المقالح الذي يستحق بجدارة أكبر من جائزة العويس، فالجائزة النبيلة وسام على صدور الأدباء والمثقفين العرب.
تحية دعاء ومحبة للرجل الكفء النزيه والشجاع فيصل بن شملان الذي مثلت سيرته العطرة أنموذجاً للزهد والطهر، والوفاء والصدق، وكان في إدارته المديدة مثلاً وقدوة في الكفاءة ونظافة اليد، وحب الوطن. لقد ترشح لرئاسة الجمهورية وتعرض لإساءة بالغة حملها بصبر ومجاهدة ليقدم أول أنموذج للتحدي.