الهرم الكبير

الهرم الكبير

*محمد الغباري
بالأمس ودعنا بحزن شديد المهندس فيصل بن شملان كواحد من الرجال العظام الذين خسرتهم اليمن، وهي تمر بأسوأ الأوضاع في تاريخها المعاصر. ورغم الزخم الكبير الذي رافق ترشحه وحملته أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلا أنه فضل الانسحاب بهدوء، حاملا معه مواجع وطن مزقته سياسة رعناء رأت ولا تزال أن الانتصار لقيم التخلف هو الضامن لاستمرار هيمنتها على مقدرات البلاد.
لم يفاجئني رحيل بن شملان لأن معاناته مع المرض الخبيث كانت قد أصبحت معلومة، وعلى العكس من ذلك فإن علمي بتمكن ذلك المرض الخبيث من غزو ذلك العقل الكبير، وتمكنه من صلابة الرجل الشجاع، هو ما فجعني، لأني استمددت من صلابته، يقينا بقدرته على تحدي كل المخاطر، وأنه عصي على الانكسار أو الانحناء، ولكنها مشيئة الله التي لا اعتراض عليها.
حين أقدم الرجل على المنافسة على أعلى موقع في الجمهورية، كان يدرك تبعات مثل هذه الخطوة في منطقتنا العربية، وقد لمستها بوضوح في أول لقاء جمعني به عقب اختياره مرشحا عن اللقاء المشترك، إذ كان جادا مؤمنا بالبسطاء والمقهورين المتطلعين للتغيير، وقد كان هؤلاء سلاحه القوي وزاده في غمار معركة شريفة استخدم خصومه في مواجهة منطقه أدوات قذرة، بعد أن أرعبها ذلك الحضور وتلك الآلاف التي احتشدت خلفه في كل المحافظات.
قبل لقائي به في المنزل الذي استأجره في صنعاء أثناء الحملة الانتخابية، كنت على قناعة بأنه ما قبل خوض هذه المعركة إلا لأنه أراد أن يسن سنة حسنة في منافسة الرؤساء العرب لا غير، وأنه مقتنع بأن الفوز لن يكون حليفه، غير أن هذه القناعات تغيرت بعد دقائق من بدء الحوار الصحفي الذي أجريته معه، حيث أظهر الراحل إيمانا مطلقا بأن غالبية عظمى من اليمنيين قد اختاروا طريق التغيير، وأن المهمة الرئيسية للنخبة السياسية هي تجاوز الحسابات المتصلة بالمكاسب الذاتية أو السياسية للهروب من تحمل مسؤوليتها في أن تقود الناس نحو التغيير.
كان يدرك أن المهمة الرئيسية لشخصه هي خوض معركة سياسية حقيقية في مواجهة خصم يمتلك كل إمكانات وقدرات الدولة، وأجهزتها الأمنية والعسكرية، حتى يكسر هذه الأصنام، ويحطم المحرمات السياسية التي أرستها التجربة العربية في الحكم، لكنه كان يخشى من عدم قدرة الأحزاب التي ترشح عنها على حماية أصوات الناخبين من المصادرة والتزوير.. وأظن أنه كان يعلم أن النخب السياسية قد أضحت أسيرة المصالح أو الخشية من التضحية، ولذا باتت تلقي بالمسؤولية عن فشلها على الجماهير التي لم تكن عند مستوى تطلعات القادة.
لم يقبل بأن يخون من صوتوا له، وظل يتمسك بموقفه حتى آخر لحظة في حياته، ظهر كخصم شريف، مترفع عن توظيف أو استثمار الصغائر للانتقام ممن صادروا إرادة ناخبيه، ولهذا عارض بقوة الأطروحات التي تستعدي الجغرافيا، وبنفس القوة انتقد سوء إدارة البلاد، وحذر من استمرار نهج الإقصاء والاستباحة لما لذلك من خطر على تماسك البلاد والسلم الاجتماعي، لكن لم يسمعه أحد.
كانت المرة الأخيرة التي رأيته فيها أثناء مشاركته في أعمال ملتقى التشاور الوطني. ورغم المعاناة الواضحة مع المرض، إلا أنه ظل حيويا ونشيطا ومتفائلا بأن الحق والعدل سينتصر مهما طال أمد الفساد، ومثلما كان كبيرا في حضوره ومواقفه السياسية، مترفعا في معارضته، كان كذلك في رحيله، إذ إنه أدرك أن هذا الخطب قد يتحول إلى موضع للتوظيف السياسي الرخيص، حتى من أولئك الذين لا يتفقون مع رؤاه الوطنية.
لقد فقدنا هرمنا الكبير وحكيماً قل أن يجود الزمن بأمثاله، فيما البلاد تموج بالأدعياء وبالباحثين عن المكاسب على جثث الفقراء والمتطلعين لحياة كريمة.
malghobariMail