ذكرى الإسراء والمعراج 1445 هجرية

يطيب لي في هذه الليلة الجليلة 27 رجب 1445 هجرية، الموافق ليلة 8 فبراير 2024م، بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج لخاتم الأنبياء والمرسلين (محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلوات والسلام والتسليم)، أن أدعو الله جل وعلا أن يمن على الأمة العربية -الإسلامية بالخير، واليمن، والبركات، وعسى أن تعود المناسبة القادمة، والشمل ملتئم، والحروب والمآسي منتهية.
كما يسعدني، ونحن نقف إجلالًا وإكبارًا مبتهلين إلى الله في هذه الذكرى العظيمة، أن أقدم بعض ما ورد حولها من دروس، ومعانٍ سامية تذكرنا بنورها الوضاء على البشرية، على النحو الآتي:
(1) معجزة إسراء نبينا محمد بن عبدالله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
قال تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير" صدق الله العظيم (سورة الإسراء آية 1).

(2) معجزة "المعراج" إلى السموات العلى ليريه رب العزة والجلال من آياته الكبرى عند سدرة المنتهى، تشريفًا له، وإكرامًا لمقامه صلوات الله عليه وسلم.

قال تعالى: "والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى. ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. إذ يغشى السدرة ما يغشى. ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى" صدق الله العظيم (سورة النجم الآيات 1-18).

ولعظم المناسبة، فقد قدم الشعراء ما جادت به قرائحهم، و غمرتني السعادة بأن أختار بعض أبيات من الشعر لشاعرين متميزين، وهما:
(1) الإمام محمد بن سعيد الصنهاجي البوصيري (608-696 هجرية) الموافق (مارس 1213-1295م)، والمولود في محافظة بني سويف في قرية بوصير، ومنهم من قال من مواليد صنهاجة في بلاد المغرب من البربر. انتقل بعدها إلى محافظة بني سويف، وتوفي في الإسكندرية.
(2) أمير الشعراء أحمد شوقي المولود في 17 أكتوبر 1868م، في القاهرة، والمتوفى في 14 أكتوبر 1932م في القاهرة.

وطابت لي الذكرى في هذه المناسبة أيضًا أن أقدم أحد الشعراء المخضرمين (كعب بن زهير بن أبي سلمى) الذي جاء تائبًا مسلمًا ومعتذرًا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي بدوره عفا عن كعب بن زهير، وكساه بردته تشريفًا بعد أن كان أهدر دمه لهجائه الإسلام.

وفي هذا الخصوص، ألقى كعب بن زهير قصيدته العصماء بعنوان "البردة"، من أفضل القصائد الرصينة، تبركًا في مدح النبي رسول الله (صلعم)، بدأها في الوقوف على الأطلال، ووصف الناقة على منوال الشعر الجاهلي (عادة جاهلية).

ولـ"بردة" الرسول (صلعم) قصة طويلة، حيث تبادلها وتناقلها الخلفاء بعد كعب بن زهير، خلفًا عن سلف، بهدف الحفاظ عليها، تيمنًا بخير الخلق، حيث انتقلت إلى الأمويين ثم العباسيين، وأخيرًا إلى العثمانيين، ويقال إنها موجودة في المتحف بإسطنبول.
تجدون أدناه بعض أبيات من شعر كعب بن زهير في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لابس البردة التي كساه بها معتزًا:
أنبئت إن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمولُ
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب ولو كثرت مني الأقاويلُ
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلولُ
مهلًا هداك الذي أعطاك نافلة
القرآن فيها مواعيظ وتفصيلُ
من الجدير بالذكر، أن قصيدة "البردة" أو "الكواكب الدرية في مدح خير البرية" للإمام البوصيري، من أفضل قصائد المديح النبوي، وقد حاكاه فيها أمير الشعراء شوقي برائعته "نهج البردة".
والقصيدتان هما من أجود ما قيل في الشعر العربي مدحًا للنبي والرسول محمد (صلعم) قدوتنا ومثلنا الأعلى.
أود أن أقتبس بعض أبيات من القصيدتين "البردة" و"نهج البردة"، تعبيرًا عن هذه المناسبة العظيمة، آملًا أن يكون اختياري موقفًا.
أولًا: أبيات من قصيدة "البردة" للإمام محمد البوصيري:
يا خير من يمم العافون ساحته
سعيًا، وفوق متون الأينق الرسمِ
ومن هو الآية الكبرى لمعتبر
ومن هو النعمة العظمى لمغتنمِ
سريت من حرم ليلًا إلى حرم
كما سرى البدر في داج من الظلمِ
وبت ترقى إلى أن نلت منزلة
من قاب قوسين لم تدرك ولم ترمِ
وقدمتك جميع الأنبياء بها
والرسل تقديم مخدوم على خدمِ
وأنت تخترق السبع الطباق بهم
في مركب كنت فيه صاحب العلمِ
حتى إذا لم تدع شأوًا لمستبق
من الدنو ولا مرقى لمستنمِ
خفضت كل مقام بالإضافة إذ
نوديت بالرفع مثل المفرد العلمِ
كيما تفوز بوصل أي مستتر
عن العيون وسر أي مكتتمِ
فحزت كل فخار غير مشترك
وجزت كل مقام غير مزدحمِ
وجل مقدار ما وليت من رتب
وعز إدراك ما أوليت من نعمِ
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا
من العناية ركنًا غير منهدمِ
ثانيًا: أبيات من قصيدة "نهج البردة" لأمير الشعراء أحمد شوقي:
أسرى بك الله ليلًا إذ ملائكه
والرسل في المسجد الأقصى على قدمِ
لما خطرت به التفوا بسيدهم
كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلمِ
صلى وراءك منهم كل ذي خطر
ومن يفز بحبيب الله يأتممِ
جبت السموات أو ما فوقهن بهم
على منورة درية اللجمِ
ركوبة لك من عز ومن شرف
لا في الجياد ولا في الأينق الرسمِ
مشيئة الخالق الباري وصنعته
وقدرة الله فوق الشك والتهمِ
حتى بلغت سماء لا يطار لها
على جناح ولا يسعى على قدمِ
وقيل كل نبي عند رتبته
ويا محمد هذا العرش فاستلمِ
خططت للدين والدنيا علومهما
يا قارئ اللوح بل يا لامس القلمِ
أحطت بينهما بالسر وانكشفت
لك الخزائن من علم ومن حكمِ
وضاعف القرب ما قلدت من منن
بلا عداد وما طوقت من نعمِ
فالطف لأجل رسول العالمين بنا
ولا تزد قومه خسفًا ولا تسمِ
يا رب أحسنت بدء المسلمين به
فتمم الفضل وامنح حسن مختتمِ
ومن هذا المنطلق، أود أن أبين بعض المزايا والفضائل الواردة بذكرى "الإسراء والمعراج"، ما بين سطور القصيدتين، وخلاصتها توضيح نقائب خاتم الأنبياء والمرسليـن عليه أفضل الصلوات والسلام، والدعاء إلى الله بأن يصلح أحوال الأمة العربية والإسلامية، والسير على المنهج القويم لنبيه محمد ورسول العالمين.

بكل أسف، إن الأمة قد تفرقت شذر مذر من بعده مللًا، وشيعًا، ومذاهب وطوائف، حادت عن الصراط المستقيم، وجعلوا من الدين اجتهادات، وسياسة.

حقيقة، لا وصاية، ولا مفاتيح جنة في الدين، "فالحلال بين، والحرام بين"، والكعبة واحدة، والدين الإسلامي واحد.

يقينًا، إن معشر المسلمين سيسوا الدين، وحادوا عن جادة الصواب إلى فرق إسلامية متناحرة خلت عن جوهر الدين الحنيف، وسلكت سبيل الصراعات.. إن الدين قيم، وإصلاح، وطهارة، ونظافة، ومعاملة، وعمل، وله دور العبادة... أما السياسة فهي احتيال، وخداع، ونفاق، ودجل، وفن الممكن، ولها منابرها الخاصة، فتسييس الدين يعني القضاء على الدين نفسه، وإفراغه من محتواه.

ومسك الختام، نزف لكم عبر الأثير أسمى آيات المحبة والتقدير بهذه المناسبة الجليلة، وندعو الله القدير بأن تتجاوز أمة العرب والمسلمين ويلات الزمن، والإحن، والمحن، والفتن، صوب عام جديد يواكب الزمن، ويعمه الأمن والأمان، ويرفل بمزيد من التقدم والازدهار. والله ولي التوفيق.