أثبتت الجهات المسؤولة بصنعاء القديمة قدرة فائقة على التسويف والمماطلة واجهاض كل محاولات فك تحالفها مع أداة التخريب.. 7 سنوات صراع بين المجاري و10 أبراج صنعانية

يعتقد جيرانه أنه عاد للسكن في منزله. فمنذ الأشهر الستة الماضية، واظب ابراهيم المؤيد 32 عاماً، على الظهور بالحي بشكل لافت، مرة يطل من سطح منزله، ومرة من النافذة، وفي المساء غالباً ما يُبقي على الإنارة في احدى الغرف؛ إنه يحاول دحر خطر اللصوص عن منزله.
لكن ابراهيم، الذي صار مؤخراً خبيراً بحراسة منزله من لصوص النوافذ والأبواب وأسلاك الكهرباء ومواسير المياه، يواجهه منذ 7 سنوات عملية ممنهجة لاجتثاث منزله وثمانية مباني إلى جواره، غربي الجامع الكبير وهو الحي العائم على بحيرة من مياه المجاري منذ مايو 2002، في صنعاء القديمة. وتوشك ابتلاع مبانيه التاريخية أمام إكتفاء السلطات المحلية، والهيئة العامة للحفاظ على مدينة صنعاء القديمة، الإحاطة بالأخطار فقط!
«النداء» زارت الأسبوع الماضي الحي الأثري وهي الزيارة الثالثة لها منذ 14 شهراً والتقت أبراهيم المؤيد للمرة الثالثة بجوار منزله وقال همساً لـ«النداء» أنه لا يقيم في المنزل وإنما هو هنا لاحراسته من اللصوص.
مطلع أغسطس الفائت 2007 كان ابراهيم المؤيد وأسرته و 6 أسر من جيرانه يحزمون أمتعتهم قاصدين شقق أستأجروها مؤقتاً لغرض إخلاء المنازل لترميمها، حسب القرارات النهائية لهيئة الحفاظ على صنعاء القديمة والسلطة المحلية.
 بعد 5 أشهر من أعمال الترميم كان البنائون والمهندسون يحملون معداتهم مغادرين الحي أيضاً؛ لقد أستنفد المبلغ المخصص للترميم وهو 5 مليون كدفعة أولى منها30 ٪_ ذهبت مقابل إيجارات مساكن مؤقته لقاطني تلك المباني.
«عندما خرجنا من البيوت قالو لنا أن مدة الترميم لن تزيد عن 6 أشهر وبدل أن أسكن في البيت رجعت أحرسه» قال ابراهيم لـ«النداء»، وأضاف: «الآن لي 6 أشهر أحرس البيت حقي وأتابع حق إيجار الشقة».
تتكون أسرة أبراهيم المؤيد من 8 أفراد وخصص لها 50 ألف بدل إيجار سكن مؤقت، لكن المبلغ تعرض لعملية سطو باسم الزكاة والضرائب ولم يبق منه سوى 37 ألف ريال، ابراهيم قال معلقاً على العملية «البحر يستقي من الزمزمية!».
بإمكان الزائر لمباني غربي الجامع الكبير ملامسة الخلل الرسمي؛ سيدرك أن الحي يحتضن صراع ارادتين منذ 7 سنوات: الهوية الوطنية التاريخية ممثلة بالمباني المقاومة لعمليات المحو، وإرادة «مياه المجاري» التي تقود تلك العمليات بالتحالف مع الهيئة العامة للحفاظ على مدينة صنعاء القديمة، والمجلس المحلي بالمديرية، يليها وزارتا الثقافة والسياحة.
أظهرت الجهات الرسمية في صنعاء القديمة خلال السنوات السبع الماضية ارادة قوية ووفية في آن لمياه المجاري، واجهاض أي مشروع للحفاظ على معالم المدينة الأثرية، لقد اثبتت قدرة عالية على التسويف والمماطلة، واجتياز كل الموانع القانونية والعقبات الاخلاقية التي حاولت فك الارتباط بينها وبين أداة التخريب.
في 18 أبريل 2007 نشرت «النداء» تحقيقاً عن المباني التسعة الآيلة للسقوط غربي الجامع الكبير. وكان حديث خالد جباري وكيل الهيئة العامة للحفاظ على صنعاء القديمة لمحرر «النداء» حينها كافياً لترك انطباع عن العقلية التي تتعاطى مع الثروة القومية لهذه المباني التاريخية إذ قال: «أننا نتابع الموضوع منذ5 سنوات وهي ليست مدة طويلة ومش معقول تنهار البيوت خلال سنة أو سنتين!».
 حينها كانت المشكلة قد اتمت عامها الخامس ووفق الجهات المسؤولة تتمثل بغياب المال لترميم المباني واصلاح شبكة المجاري. وقدرت الجهات ذاتها المبلغ المطلوب لإصلاح الخلل والحفاظ على 9 أبراج تاريخية ب40 مليون ريال.
بعد مضي 3 أشهر -في أغسطس 2007 - اعتمدت الهيئة العامة للحفاظ على صنعاء 5 مليون للشروع في عملية الترميم، على أن يتم تعزيز المبلغ بآخر، ليستمر العمل، لكن العمل توقف نهاية العام الفائت بنفاد المبلغ.
 وبحلول العام 2008 كان يفترض أن تقوم الجهات المسؤولة بتسليم المباني «مرممة» لأصحابها لكن ماتزال جميع الأسر تقطن في الشقق المستأجرة مؤقتاً. ويصبون لعناتهم على الطريقة التي اعتمدت في الترميم الجزئي لمبانيهم.
أبراهيم الشاب الذي خسر مصاريف عرسه في متابعة الهيئة والمجلس المحلي طيلة المدة السابقة كان يتحدث بنبرة ساخطة: «رمموا نصف الواجهة فقط وخربو البيت»، واتجه صوب باب منزله ودفعه بيده لكن الباب لم يغلق وقال: «شوف الباب ما عاد يتغلق هذا من إنجازات الترميم!»
تزيين فخ!

في باحة مباني الرعب يدوي صوت يحيى عصدة الرجل المثابر الحزين. الذي عرفته «النداء» في أبريل 2007 باعتباره مكلَّفاً من أصحاب المباني المتضررة بمتابعة الجهات المسؤولة عن مصيبتهم. ومجدداً قال: لـ«النداء»: «هؤلاء ما يخافوش الله» (الجهات المسؤولة)، وبيده أشار إلى مبنى الخولاني (خضع لعملية ترميم غير مكتملة) وسأل: لماذا جددوا الواجهة والبيت خارب من الخلف، والأساسات وأشار بيده إلى الأسفل، منتهية؟». مستحضراً مثلاً قديماً «يغطوا الضرط بالحنحنة».
 يتفاجئ العم عصده في كثير مرات بنشر أخبار في الصحف عن عالم مباني غربي الجامع الكبير المزهر، المحفوف برعاية الضمير المسؤول! «كله كذب يكتبوا أنهم صلحوا ورمموا، والله ما في حاجة» ثم سألني تعرف مكان ثاني أسمه غرب الجامع الكبير؟ ويواصل «عادهم يقولوا أننا تسلمنا كل التعويضات والإيجارات».
لم يغادر العم عصدة منزله المكون من خمسة طوابق و24 غرفة، لكن شقيقاه نقلوا أسرهم إلى شقق مؤقته أما هو «خصصو لي 34 ألف حق إيجار وأنا معي 11 فرد، كل أصحاب البيوت يرفضو يأجرو لي لما يعرفوا أننا 11 فرد وما بش شقق كلها ب50 ألف».
 عصدة توجه إلى أطرف العاصمة -المناطق النائية- عله يجد شقة بالمبلغ المحدد تحويه وأفراد أسرته، لكن مساعيه باءت بالفشل، وهو الآن يقطن في المبنى المتهالك رفقة الفئران وروائح المجاري ورطوبتها المندية على جدران الغرف، عقب أنفجار شبكة مجاري الحي في مايو 2002 وتسرب مياهها إلى ساسات المباني محدثة إرتخاء في التربة وهبوطاً في المباني وتشققها فضلاً عن زحفها إلى الطوابق العلوية لتغدو إحدى زواياه وتحتل الهواء.
سيناريو التسويف
مؤخراً أخذت مشكلة مباني غربي الجامع الكبير منحاً مغايراً؛ فبعد أن كان العائق هو «المال» صار الآن «آلية الأصلاح».
ووفقاً لإفادات مسؤولين ووثائق حصلت «النداء» عليها فإن المجلس المحلي بصنعاء القديمة والهيئة العامة للحفاظ على المدينة التاريخية أختلفا حول الآلية التي ستعتمد في تنفيذ عملية الترميم. بعد أن صار بحوزتهم قرابة 20 مليون ريال.
مجاهد الغيل الأمين العام للمجلس المحلي بصنعاء القديمة قال: «نحن اعتمدنا 10 مليون ريال من مخصصات المشاريع الاستثمارية للمجلس من أجل انقاذ المباني وننتظر 20 مليون أخرى وعدت وزارة الثقافة بصرفها خلال أيام. كما اعتمدت أمانة العاصمة 5 مليون، لكن بسبب اهمال هيئة الحفاظ على صنعاء القديمة لم تبدأ عملية الترميم» الغيل اتهم الهيئة بعدم القيام بمسؤولياتها.
غير أن عبدالله زيد عيسى -رئيس هيئة الحفاظ على مدينة صنعاء القديمة- أفاد أن المجلس المحلي اعتمد آلية عمل مخالفة للقانون، الأمر الذي رفض حد قوله التورط فيه واعتمد تلك الألية.
وقال: «المحضر الذي وقعو عليه واتفقو على تنفيذه لا يسمح لي بتجاوز القوانين». لكن عيسى أقر بمسؤولية الهيئة والمجلس المحلي معاً في تأخر حل مشكلة المباني الآيلة للسقوط، معتبراً الحل في أن يتولى المجلس المحلي أخذ المبلغ المخصص لترميم المباني والتعاقد مع المقاولين وتتولى الهيئة عملية الأشراف أو العكس.
غير أنه حال سألناه عن تلويح وزير الثقافة بأحالة المتورطين في بقاء مشكلة تلك المباني إلى المحاسبة، ألمح إلى أن الجميع مسؤول بما فيهم الوزير وتأخره في أعتماد المبلغ المطلوب للترميم.
 ووفقاً لمصادر هندسية فإن المباني مهددة بالانهيار في أي لحظة وقالت: الدعائم الحديدية التي نصبها فريق الترميم في الشهور السابقة ليست مجدية، وحال شهدت المنطقة أمطاراً غزيرة، النتائج ستكون مأساوية.
وإذ أشارت إلى أن قرار التأسيس منح الهيئة اسم الحفاظ على صنعاء القديمة: تسألت: هل هذه الهيئة مؤهلة للقيام بالدور المطلوب، والحفاظ على معالمها؟
سبع سنوات من الاهمال ربما ليست كافية وربما السلطة المحلية في صنعاء القديمة وهيئة الحفاظ على المدينة التاريخية انغمسا في عالم فضائلها وقررا مواصلة تحالفهما مع مياه المجاري!
balsaeed