فيروز جديدة وتضع طرحة سوداء على رأسها

فيروز جديدة وتضع طرحة سوداء على رأسها - جمال جبران

(1)
كان الوقت فجراً وأنا الغريق، حينها، في بحر قنوات فضائية تهبط عليّ بلا هوادة ومن كل حدب وصوب. تهبط كمطر ناري. قنوات فضائية ماتني تتكاثر كالفطر وبطريقة تعادل تكاثر عدد سكان عشوائيات الجمهوريات العربية. قنوات فضائية وقنوات، تتكلم بكل اللغات وتقول في كل شيء. تقول في أمور الأديان كما في شؤون الرقص الشرقي والغربي. قنوات تقول في الغناء كما في الرياضة. تقول في الأخبار كما وقصص الموتى غرقاً، أو ذبحاً أو بواحدة من كوارث الطبيعة أومن أفعال الكائن البشري. قنوات تقول في الاقتصاد. قنوات للموضة. قنوات للبنات والنبات. قنوات لتعليم فنون الطبخ كما وألعاب السحر وفنون الشعوذة والدجل والتنجيم وتفسير الأحلام. قنوات فتاوى وتبث على الهواء مباشرة. قنوات للسياحة وأمورها الخفية. قنوات للملاحة وأعالي البحار. قنوات للصيد البري. قنوات لقيادة السيارات. قنوات للراغبين في الزواج و الطلاق. قنوات للأطفال. قنوات لـ"الشات ". قنوات لرنات الموبايل. قنوات لأفلام الرعب كما وقنوات الأبيض والأسود. قنوات من زمان. قنوات لعالم الحيوان. قنوات لتعليم فن تربية القطط والكلاب كما وفن تربية بني الإنسان.
قنوات وقنوات هي. والوقت فجراً ولا يرغب في تمرير نفسه. يستهوي بقاءه ثقيلاً على قلبي. ولا يستحي.
(2)
ويظل الحال على حاله. يظل الوقت ثقيلاً كأنما تجمد في انتظار حدوث شيء ما. في انتظار لحظة واحدة مبثوثة على شاشة. لحظة هاربة من طوفان القنوات ذاك.
وقد كان.
الوقوف عند تخوم لحظة هاربة وبدت كمن نجا من غرق أكيد.
وقفة، كانت، على واحدة من تلك القنوات وتدعى (أو تيفي). هي لبنانية وحديثة الظهور. وتعرض على شاشتها سهرة لفيروز. ظننت الأمر هكذا لأول وهلة. حسبتها وصلة من حفل غنائي قديم، في بعلبك أو بيت الدين مثلاً. لكن وجه السيدة فيروز بدا حديثاً، أقصد ملامحها. كما لا فرقة موسيقية تصطف خلفها. مجرد " استاند " في مواجهتها فيما هي تقرأ منه وتغني، أو تنشد، لا فرق. في طريقة غناء موازية لما فعلته في إنشودتها المطولة " النبي" لجبران خليل جبران المنتقاة من كتابه الشهير وتحمل ذات العنوان. الملحنة عن طريق الأخوين رحباني. ومنه "... المحبة لاتُعطي إلا من ذاتها... والمحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق... ولاتقل الله في قلبي لكن قل أنا في قلب الله... ". كان في غناء السيدة فيروز شيء من هذا. وأعادني حنيني إليه مباشرة إذ لمسته بأصابع قلبي.
(3)
لاحقاً. في اليوم التالي. عرفت من صور منشورة لها على صفحات الجرائد اللبناينة في مواقعها الالكترونية. عرفت أن السيدة فيروز كانت تغني في كنسية ولم تكن في حفل قديم جديد لها. والمناسبة ليلة الجمعة العظيمة (في هذه الصفحة مقال عنها وعنه). وهو موعد سنوي لها.
كانت فيروز في الصور كما كانت عليه في الشاشة، مستقيمة وبطرحة سوداء على رأسها. حسناء وأنيقة وقد تجاوزت السبعين من عمرها. كأنها بلا عمر. كأنما تقف خارج الوقت فلا تتأثر بعوامله وتقلباته. ثابتة. كأنها وطن الجميع وملاذه وتستجيب لنداءاتهم. كأنها خُلقت لهذا الأمر. كانت السيدة في كنيسة وتنشد كما تفعل دائماً خارجها. كانت فيروز هناك كما هي عليه في أماكن أخرى. الاسم المعادل للحياة. بصوت ثابت لايتغير، إن كان هناك أو هنا. صوت لايغدر أبداً. بجمهور مُحب، ودود، مهادن، سابح لايتمكن من كبح جماح ماء عينيه كما والتصفيق لاحقاً، بشغف الراغب في وصلة أخرى إثر انتهاء سابقتها. هو يريدها وصلات غنائية لاتنتهي. وصلات حتى آخر العمر والحياة. هو شغف المحب الخائف من فراق وشيك.
Hide Mail
 
 
***
 
 
صوت القلوب المتألمة

"معنا هو الله فاعلموا أيّها الأمم وانهزموا/ لأنّ الله معنا/ اسمعوا إلى أقاصي الأرض/ لأنّ الله معنا/ أيها الأقوياء انغلبوا/ لأنّ الله معنا/ لأنّكم ولو قويتم فستنغلبون أيضاً/ لأنّ الله معنا".
عصف صوت فيروز أمس في فضاء كنيسة مار الياس الصغيرة في المصيطبة، وتسمّرت دموع المصلّين في المآقي وشخُصت عيونهم إلى نعش المسيح المنسوج بالورد الزهري وتدرّجات ألوانه، المرتفع أمام باب الهيكل الرئيسي. وعلا صوت الكورس: "لأنّ الله معنا".  "الله معنا"... فلنُقْدِم على اقتراف المحبة وتجديد الإيمان والأمل بقيامة لبنان في يوم "الجمعة العظيمة" ولنردّد "قام المسيح من بين الأموات".  هكذا فعلت فيروز بالمؤمنين حين حضرت أمس لتصلّي. أطلّت من باب الهيكل الشمالي متّشحة بالأسود، يغلّفها صمت وخشوع ونور. سجدت على كرسيّ الصلاة ورمقت المسيح المسجّى داخل النعش. فجأة هدأ الناس، صغاراً وشباباً وشيباً، الذين لم يتعبوا من التدافع إلى المذبح والحديث بصوت عالٍ، بعد دعوات عدة من الكاهن للناس إلى التأمّل والصلاة!
مدركةٌ هي أنّ من قصدوا الكنيسة، من أجانب وعرب ولبنانيين، هدفهم رؤيتها. لكنّها، هذه المرأة المسكونة بمجد الماضي وحزن الحاضر وأمل قيامة لبنان، قلبت المعادلة. صوتها العميق، الدافئ، المغلّف بقوّة الله الصامتة، جسّد قول السيّد المسيح "بيتي بيت صلاة"، فصلّى الجميع وسجدوا "لآلام المسيح". غاصت في عذابات المسيح وتأوّهات مريم العذراء ترافقها نقرات آلة القانون وخفر آلة الكيبورد ومريميّات الكورس على "درب الجلجلة". حالة انخطاف "خارج العالم"، فترة نصف ساعة، تكدّس فيها الدمع بالعيون وتدحرجت الحبيبات اللامعة على الوجنات، عفوياً، تغسل النفوس المتألمة والقلقة.  يصدح صوت فيروز "أنا الأم الحزينة وما من يعزّيها". ينقطع النفس. يرجف الجسد ويتوقّف الزمن.
"مات وصُلب عنّا نحن البشر وقام في اليوم الثالث". هذا العبور وفرح القيامة هلّلت له فيروز مع الكورس على مسامع الناس "المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور"... أمل بثّته في النفوس التي صلّت حتى يعبر لبنان "درب الجلجلة" إلى الحياة ويستفيق زعماؤه من القبور التي تحنّطوا بها. أمل رتّلته فيروز قبل أن تنسحب وتسدل الستارة الأرجوانية على صفيق حار: "طوباكِ طوباكِ يا أمّ الحمل/ لبنان لولاك يقطع الأملـ".
< عن "النهار" اللبنانية.