الانتخابات والبطون الخاوية

الانتخابات والبطون الخاوية - محمد ناجي أحمد

مع بدء التسعينات بدأ الناس رحلتهم مع الفقر بوتيرة لم يعهدوها من قبل، ولذلك فقد عبروا عن رفضهم لموجات الغلاء المصاحبة للجرعات في العديد من المظاهرات التي بدأت من عام 91، 92، 97م, لتستمر في الألفية الثالثة تحت يافطات كثيرة. لكن الفقر وغلاء الأسعار، والفساد المالي والإداري وفساد القضاء، وانعدام فرص العمل، هي المحرك الفعلي لمثل تلك الاحتجاجات. و أمام هذا الخط التصاعدي للإفقار يأتي التهميش السياسي كنتيجة لمثل تلك السياسات التي تعالج الاختلالات من سياسات الجرع، وبموازاة تحرير السلع وتضخم الفساد ينحدر حق المواطن في المشاركة السياسية نحو الإلغاء. ففي انتخابات عام 1993 وهي الانتخابات المصاحبة لمسيرة الإصلاحات السعرية، كانت النتيجة موازية لوجود قدر من التوازن السياسي بين القوى الحاكمة, وكذلك قدرة متواضعة في مواجهة القيمة الشرائية للسلع.، ومع تصاعد موجات الغلاء، كان الصوت الانتخابي للمواطن يتجه سلباً باتجاه تغييب من يمثله فحرية الإنسان مرتبطة برغيف عيشه، وحين يصادر رغيف الخبز، يفقد الصوت الانتخابي حريته، بل إن فتوى قانونية أطلقها الإمام الأكبر أبو حنيفة النعمان في القرن الثاني للهجرة تبطل شهادة من ليس في بيته طحين، تعد مناسبة لمقام الحال الذي نعيشه، فإذا كان الجوع جارحاً لعدالة المرء في الشهادة فإنه من باب الأولى بطلان الصوت الانتخابي لمن "ليس في بيته طحين" وقد كان سلمان الفارسي يرى الفقير:أنه ذلك الذي ليس لديه قوت سنة، فما بالنا والكثيرون لا يملكون قوت يومهم.
الانتخابات واللقاء المشترك: يرى الكثيرون فكرة اللقاء المشترك, سواء أكانوا في الداخل أم الخارج، على أنها فكرة حضارية في مواجهة النظام الحاكم في اليمن. وهي رؤية تحتاج من وجهة نظري إلى تأن في التقييم، تجربة "اللقاء المشتركـ" تخلق التباساً لدى المراقب المحايد، فهي كما يفترض بها مرحلة تالية للتنسيق (مجلس التنسيق الأعلى) نحو وثيقة سياسية مشتركة تنقل أحزاب "اللقاء" إلى مستوى العمل الجبهوي في إطار مشروع موحد هاجسه إسقاط الحاكم بواسطة صناديق الاقتراع. وبما أن "النظام الحاكم" مستثمر جيد لحالة الفقر والجهل, ويمتلك من القدرة والمعرفة ما يؤهله لأن يربك "أحزاب اللقاء المشتركـ" بالعديد من المبادرات والأزمات. ما يجعل تلك الأحزاب التي لم تغادر ثقافة "المناصحة" ولم تؤسس وتراكم لثقافة الاحتجاجات السلمية، في حالة عجز دائم بمقابل بقاء "النظام الحاكم" على سدة الحكم وبنفس الآلية التي تجعله يقود جماهير الجياع بعيداً عن أحزاب "المشتركـ".
وبما أن فكرة "المشتركـ" كما قلت سابقاً ملتبسة في بعدها الثقافي، فإن هاجس هذه الأحزاب أو على الأقل "أكبرها" سيظل هو تفيُّد هذه الأحزاب وقياداتها وفقاً لمصالحه الاستراتيجية، ولعل الحوار الذي أجرته صحيفة "الناس" مع رئيس مجلس شورى الإصلاح الأسبوع قبل الماضي "محمد علي عجلان" حيث استفزه المحاور مدعياً بأن الاشتراكي يقودهم، أجاب: "نحن أدرى بمن يقود الآخر". وطالما أن ثقافة "العلاقة الاستراتيجية" بين الإصلاح والنظام الحاكم ما زالت حاضرة بقوة في أعلى هيئة (مجلس شورى الإصلاح) فإن دوافع تأسيس اللقاء المشترك وفقاً لوثيقة سياسية، تجعل الإصلاح قادراً على الضغط على حليفه الاستراتيجي، على أرضية "المناصحة" والمصالح المشتركة وأن اليمن لم يعد صالحاً لحزب الشدة والرخاء وبالتالي فلا بد من إعادة رسم العلاقة الاستراتيجة، فيأتي اللقاء المشترك كضرورة وكأداة لإعادة صياغة هذه العلاقة.
لهذا يتجنب محمد قحطان في حواره مع نبيل الصوفي في العدد الأول من مجلة "أبوابـ" نقد المؤتمر الشعبي العام, بل ويستخدم صيغة حميمية في رفضه "تجريح بعضنا" وهي لغة الإصلاح التي تصعد إلى السطح كلما كان هناك شيء من التسويات بين "الاستراتيجيين".
تنسيق لا مشترك: بما أن صيغة "اللقاء المشتركـ" صيغة ملتبسة وتسمح للطرف الأقوى فيه بإدارة وتوجيه الآخر، وهي صيغة سياسية ليست مبنية على أرضية معرفية، فإن صيغة "التنسيق" بين أطراف العملية السياسية هي الأكثر وضوحاً في دلالتها، ولا تعطي للأقوى إمكانية تسيير الآخر، ففي حين أن دلالة "المشتركـ" دلالة استراتيجية في فحواها اللغوي, إلا أن حقيقة الممارسة تدل على أنها خطوة تكتيكية وورقة ضاغطة، يمكن للتجمع اليمني للإصلاح الذي لا يندم على دوره في حرب (1994م) وإنما على نتائج هذه الحرب فقط لا غير والتي عملت على نتائج إخراجه من الشراكة إلى المعارضة "المناصحة"، وهو ما لم يعد مقبولاً لدى قيادات الإصلاح والتي قامت بالدور الرئيسي، في تدعيم أسس هذا النظام بل إنهم كانوا "حزب الحاكم" حتى حرب 1994م، وتحملوا على عاتقهم مواجهة القوميين، واليساريين منذ نشأة هذا النظام وحتى تلك الحرب المشؤومة "بنتائجها" فبدلاً من زيادة حصتهم في الحكم, تم التعامل معهم على أنهم قوة فائضة، طالما والتحديات الكبرى قد زالت، بزوال دولة اليسار في الجنوب، وأصبح القوميون (بعثاً، وناصريين) مستضعفين في الأرض!!
التحولات المستديرة: في مقال سابق كنت قد نشرته في "النداء" بعنوان "متى نبدأ التغيير" أشرت فيه إلى التحولات التنويرية البطيئة في مجالات الاقتصاد والتعليم والثقافة والسياسة في منطقة الخليج، لكن هذه التحولات تسير في خط تصاعدي إلى درجة قد تذهل وأنت تقرأ مجلة صادرة عن جامعة الملك سعود – قسم اللغة العربية – لتقرأ فيها دراسات فكرية عن الهوية والمجتمع، بمعالجات عقلانية وضعية ودنيوية تحرره من أسر الفتاوى والأحكام "الوهابية". في اليمن المسألة مختلفة فالتغيرات تبدأ سياسية ومفرغة من محتواها الاجتماعي والثقافي، لنجد أنفسنا نلهث خلف صناديق الاقتراع المليئة بأوراق محرومة من الحرية الاجتماعية والثقافية؛ فتصبح الحرية السياسية حالة رضوخ للممارسة اليومية، وبانحدار تصبح معه انتخابات 1993م هي أعلى المنحنى,بل إن "النظام الحاكم" حين يفكر بالموسيقى كمثال تنويري، فإنه لا يعمل على تجذيرها ودعمها في مؤسسات الثقافة، وحين يفكر باستخدام بعض الفنانين والفنانات من الشام أو مصر، فإنه يقيم تلك الحفلات من باب مناكفة حليفه الاستراتيجي (الإصلاح) وإظهار سوأته لحلفاء الإصلاح "غير الاستراتيجيين" الاشتراكي والوحدوي الناصري. وهو في هذه المناكفة ينجح في كشف مخاتلة "خطاب الإسلام السياسي" في مواجهة الموسيقى والغناء، ويجعل هذا التيار في موقع المدافع عن وثابته وبلغة مهتزة تتوارى خلف مبررات السياسة والاقتصاد والحالة المعيشية التي يعاني منها اليمنيون، كما جاء في موقف "دحابة" المحرض ضد إقامة حفلة الفنانة "أصالة" ورغم أن جذر الرفض لدى "النائب دحابة" يقوم على أساس "سلفي" هو رفض وتحريم هذه الحفلة التي تجتمع فيها المحرمات من صوت وصورة وإيقاع، إلاَّ أن تسويق الموقف العقدي تحت مبررات الوضع السياسي في الجنوب والحالة المعيشية، هو ما يجعل هذه المخاتلة تعبيراً عن اهتزاز القناعات أو على الأقل أنها أصبحت في مرحلة "تقية" لأنها لن تجد لها نصيراً من قبل حلفائه "غير الاستراتيجيين في اللقاء المشتركـ" ولهذا يصبح الموقف رأي شخص لا يلزم التجمع اليمني للإصلاح، وهو حق ديمقراطي طالما وهم لا يمتلكون سلطة المنع كما جاء في تصريحات لمحمد قحطان أثناء فعالية تضامنية مع "المناضل عبد الكريم الخيواني" على حد وصف قحطان للخيواني. وصحيح أن الرأي الشخصي والفردي قد تم التعبير عنه من خلال شخصيات معتدلة وأخرى متطرفة، إلاَّ أن الفرق بين التشدد والاعتدال لا يتجاوز دبلوماسية اللغة الرافضة لإقامة حفلة أصالة نصري أو راغب علامة أو تامر حسني، وإن كان تحريم حفلة أصالة أشد كونها امرأة تجتمع فيها المحرمات من صوتها وشعرها وزينتها ولبسها، إنها المرأة التي تغوي الذكور، وتخرجهم من جنة الاستقامة إلى نار اللهو والانحراف!! ليس هناك فرق بين دحابة وموقف النائب شوقي القاضي الذي يوجه رأيه في مقالة نشرها وقتها في "نيوز يمن" نحو الأوضاع السياسية والمعيشية والحفاظ على المال العام، لكن رأيه هذا يأتي كلائحة تفسيرية لموقف دحابة "الشرعي" تجاه "الغناء" وهكذا تتداعى المواقف الفردية في حالة كرنفالية متجاوزة لصمت مؤسسات "الإصلاح" المخاتلة والمستحية من حلفائها!! ليكون صوت الإعلاميين والبرلمانيين هو صوتها الغير مخاتل من حيث مبدأ التحريم لكنه المخاتل في تسويق هذا التحريم، فمن موقف مروان الغفوري المحرم لصوت أصالة من نواحي فنية فهي ليست صوتاً ملائكياً كـ"فيروز" وبالتالي تصبح صوتاً نشازاً، إلى احتفاء عادل الأحمدي بالنشيد الإسلامي وشعرائه وفنانيه. والاحتفاء الموارب بصوت فيروز الذي يقدره بعضهم كونه "صلاة" وإذا كانت الصلاة هي عمود الإسلام ومن تركها عاصياً "فهو كافر" فإن ترك "فيروز" باتجاه "أصالة" أحسبه وفقاً لهذا الرأي "كفراً"!!
إن مخاتلة خطاب "الإسلام السياسي" في مواجهة الموسيقى والغناء، وتبريره رفض الفن بحجج اقتصادية تتعلق بالوضع المعيشي للناس الرقص على آلام الجياع على حد تعبير دحابة البليغ والذي يتكئ على الاستعارة المجازية كونه خطيباً منبرياً، وكونها الأكثر قدرة على التحريض بما تكتنزه هذه اللغة المجازية من استجابة لدى العامة وكذلك قدرتها على الديمومة في الذاكرة – هذه المخاتلة دافعها سياسي وشروط صياغتها سياسية كذلك، سواء احتاجت إلى مقالة تفسيرية ل "شوقي القاضي" أو مقالة مناهضة لـ"صوت أصالة" المزعج ل "مروان الغفوري" أو استنهضت شعراء الإنشاد الإسلامي كما هو حال مقالة "عادل الأحمدي. كل ذلك التواري خلف ساتر الأخلاق والوضع المعيشي والمعايير الفنية لصوت أصالة؛ جذر رفضه عقيدة سلفية، تقول بتحريم الغناء بمصاحبة آلات الموسيقى، ناهيك عن صوت المرأة وسفورها وكونها كاسية عارية!! والقول بالجذر العقدي للتحريم ينبغي فهمه في سياق الأيديولوجية الدينية، تعبيراً للصراع السياسي بين الفرقاء، فالمتبني لحفلة أصالة، والمناهض لها هما تعبير من تعبيرات السياسة تتجلى بين الفرقاء.
mohmad