يكتب ضد الإحتجاج الجنوبي

عبدالباري طاهر يكتب ضد الإحتجاج الجنوبي

حرب 94 الإجرامية جرعت اليمن السم المختوم بالدم والمعمد بالكارثة. كانت الحرب منعطفاً تراجيدياً في الشمال والجنوب. فقد شرب الطغيان كأس انتصار القوة وأصبحت القوة القانون الذي يحكم علاقة الحاكم بالمحكوم والشمال بالجنوب.
لم تكن الحرب غزواً شمالياً صرفاً ضداً على الجنوب، كل الجنوب. فقد شارك طرف جنوبي قوي فاعل ومؤثر في هذه الحرب.
كان المشهد كارثياً بكل المعاني، فهناك من «امتشق سيف» شمر يهرعش أو عصا إيل وتر، وهناك من رفع لواء «لا صوت يعلو فوق صوت الثأر والانتقام»، ولطخت الشوارع والنفوس بـ«ومن جهز غازياً فقد غزا»، وامتد شعار الحرب الكريهة إلى بعث أحقاد وضغائن القرون الغابرة. واحتشد القتلة من حول الجنوب: الكافر، الملحد، الخائن، والانفصالي.
ولم تكن القيادة الجنوبية أو بالأحرى البقية غير الصالحة منها، على حق. وبعد أكثر من سبعين يوماً على «الغزوة» الانفصالية بامتياز، بدأ الغزاة يخلعون معاطف «الأردية» الاسلاموية أو القومجية أو الثورجية، أو غزوة بدر وحنين وتقاتلوا، ككل القتلة، على الغنائم والأسلاب. وكان الأقوى فتكاً هو الأكثر وطنية والأصدق إسلاماً والأشد قومية.
وينفض «العرس» الدامي، وإذا الملك العضوض عارياً، يبدأ الضحايا في الجنوب بالتململ ورفع اصبع الاحتجاج ضد الجلاد وإصبع الضحية أقوى من مدافع ظالم واشد من بأس الحديد وأجلد، كاستعارة من شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني.
البداية الاحتجاجية السلمية هي الرد المناسب على همجية الحرب ودمويتها وهي أخطر سلاح يواجه الطغيان في كل زمان ومكان. فملك الملوك في إيران مالك سادس جيش في العالم، تسقطه صدور المتظاهرين العارية.
ويتمكن غاندي بصمته الداوي، وثغاء معزته الجائعة، واعتصام أمته الهندية بالامتناع عن الفعل، يتمكن من طرد بريطانيا العظمى، وتجريدها من درة تاج المملكة التي لا تغيب عنها الشمس.
وبالاحتجاج المدني يسقط «بينوشيه» في الشيلي.
لا يستطيع الطغيان -أي طغيان- أن يسكت صوت الاحتجاج المدني الداوي والعظيم.
الاحتجاج السلمي في الجنوب هو الرد الوفاق على همجية «الغزوة الجهنمية» في صيف 94 وإسقاط شراكة أبناء الجنوب، وتزييف إرادة الناس ومصادرة حقهم في الوظيفة العامة والترقية والعيش الكريم.
جنون القوة المؤزرة بالقبيلة الذي انتصر في الحرب، يعجز عن مواجهة صوت المحتجين ضد التجويع، والمطالبة بالحقوق. لا تحتاج القوة الباغية لكي تنتصر إلى قوة أضعف منها، أما القوة في مواجهة إصبع الاحتجاج، و الايماءة بالوسطى، كاستعارة من الزميل القدير نعمان قايد سيف، فإن القوة تصبح عبثاً وبائرة.
يخشى جيش الدفاع الاسرائيلي من حجر الطفل الفلسطيني أكثر من خشيته من «الظافر» و«الناصر». وعجز جنرالات اسرائيل (يعلون ورابين وموفاز وشارون) عن قمع انتفاضة الطفل الفلسطيني، أو مواجهة الحجر بالدبابة والصاروخ، كنبوءة ناجي العلي الذي رسم حنظلة وهو يحمل صخرة كتب عليها: «وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم»... الآية.
الخطر الذي يتهدد انتفاضة الجنوب ليس القتل العامد ضد المحتجين المدنيين فحسب، ولكن انجرار الضحية إلى العنف أو إلغاء الآخر أو تحول الضحية إلى جلاد هو الداء الوبيل الذي يصاب به الضحية. فعندما يتماهى الضحية مع الجلاد، أو يرتدي بزته، أو يصادر الحرية التي هي سلاحه الوحيد، فإنه يكون قد انتصر للجلاد ضداً على نفسه. ما معنى أن يقول الضحية: «لا حزبية بعد اليوم»؟! إنه يشهد كذباً للجلاد الحقيقي أنه أكثر ديمقراطية وعدلاً منه.
ما حصل في الضالع الأسبوع الماضي بائس ومسيء. ولا يمكن تبرئة الحكم من افتعاله. ولكن المأساة تكون أكبر عندما يعتقد البعض أنه المالك الوحيد لحق الاحتجاج أو قيادة هذا الاحتجاج.
إن الظلم قد طال كل أبناء الجنوب، منهم العسكري الذي أحيل إلى التقاعد والعسكري الذي حرم من الخدمة أو منع من الترقية. وهناك الآلاف ممن حرموا من الوظيفة العامة، ومواطنون بالآلاف نكل بهم لأنهم جنوبيون. فهناك انتقاص من المواطنة وغمط للحق، وتهميش في المشاركة. والذين يريدون احتكار الاحتجاج أو الانفراد بقيادته، لأي اعتبار كان، لا يقلون ضرراً عن الجلاد الأصلي الذي يحتكر الوطنية والوحدوية والديمقراطية والاسلام.
وتحول الضحية إلى جلاد لا ينتصر للجلاد الأصلي فحسب، وإنما -وهذا هو الأخطر- يقطع الطريق على انتصار الحق، ويغرس القرف واليأس في عقول المقهورين، ويزكي الطغيان. وكأنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه.
إن الذين يتحدثون عن عداوة مطلقة بين اليمني واليمني، بين الشمالي والجنوبي، أو يريدون العودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ال22 من مايو 90، إنما يعززون من قوة الطغيان، ويقدمون المستبدين الذين لا يؤمنون بوحدة قبيلتين في الشمال أو الجنوب، يقدمونهم كأبطال وحيدين مدافعين عن الوحدة، وداعين للتضحية من أجلها.
كما أن محاولات العودة إلى عصر ما قبل الوطنية هي منافسة للاستبداد على تسويق بضاعته البائرة، وخلق المبررات والأعذار للانغماس في الصراع الدامي.
انتصار قوى الفيد والنهب في حرب 94 يعود في جانب من جوانبه إلى انجرار الوحدويين الحقيقيين إلى دعوات انفصالية وزائفة.
تجريب المجرب خلل في العقل ونقص في التجربة، كما يقول بعض الفلاسفة. وندرك أن قوة المحتجين المقهورين هي تجنب العنف أو الانجرار إلى العداوة مع بيئتهم وإخوتهم في اليمن كلها.
إن الوحدة والديمقراطية والمواطنة بدلالاتها وأبعادها الحقة، هي كعب أخيل في بنيان الحكم المتداعي. وهو ما يحرص عليه المحتجون المعبرون عن مطالب اليمني المقهور في الأرض اليمنية كلها.
عندما يحاول الضحية تقمص روح الجلاد، فإنه لا يخون قضيته فحسب، بل يتخلى عن سلاح الانتصار الأكيد والوحيد. محاولات الإساءة للزعيم والمناضل فيصل بن شملان كالإساءة للوحدة والديمقراطية والتعددية السياسية والفكرية، هو قتال بقطع النظر عن المؤامرة وعن النوايا، سيئة كانت أم حسنة، قتال مع المعتدين العتاولة ضد المقهورين المحتجين.
الانفصاليون الحقيقيون هم الذين انقلبوا على الوحدة، وسفكوا دماء إخوانهم. وهم ناهبو لقمة الخبز الجاف من أفواه المطحونين بالفقر، وهم سماسرة الأراضي، وتجار السلاح، وناهبو المال العام. ولكن عندما يحول الضحية سلوك وممارسات الجلاد إلى هدف وشعار له، فإنه يكون قد خسر نفسه وقضيته قبل بدء المعركة.