منصور والقلب المضنى

منصور والقلب المضنى - عبدالباري طاهر

للأسبوع الثاني على التوالي يرقد الصحفي المقتدر والنابه والمثقف منصور هائل في منزله جراء وجع القلب دون أن يهتم الزملاء في نقابة الصحفيين الذي كان ابن هائل واحداً من قيادتهم بالأمس القريب... فقد كان منصور رئيس «14اكتوبر» في جنوب الوطن (سابقاً) بعد 86.
واصبح واحداً من القيادة الصحفية المؤسسة «مجلس مركزي» بعد الوحدة. وحالياً رئيس تحرير صحيفة «التجمع» الناطقة باسم حزب التجمع الوحدوي.
منصور هائل قلم له طعم المختلف ومذاق المغايرة إبحاره الدائم في القراءة والمثاقفة يفتح أمامه باستمرار أبواب الآتي وأفق المستقبل. فهو من قلائل من مثقفينا واصل رحلة التطور في الفلسفة والنقد. فلم يقف في الفلسفة عند تخوم ماركس أو انجلز أو لينين، وإنما أبحر باتجاه الجديد عند لوكاش، وغرامشي وفوكو وشتراوس وتودروف وصولاً إلى تشومسكي بلا ضفاف. وفي النقد الأدبي فإنه قد غادر مثابر «جدانوف» باكرا فقرأ الواقعية بلا ضفاف وأبحر في متونها رواية وقصة وشعراً ونقداً. وكانت متابعاته للسرد حد العشق.
 ما يكتبه منصور في الصحافة مزيج مقطر من النص الجديد والمفتوح. فهو يكتب نصاً يتلاقح الشعر فيه بالقصة بالدراما بالنقد. فهو نص إبداعي تتواشج فيه أشكال إبداعية عديدة تضم احياناً في عمود أكثر من شكل إبداعي.
وهو في قراءته أو نقده لنص الوقائع والأحداث والسياسات اليومية أقرب للحفر عند فوكو.
وتفكيك منصور لنص الوقائع والاحداث الجارية والفكر اليومي يمزج فيه بمهارة بين ديالكتيك هيجل وبليخانوف وازدواج النقد عند عبدالكبير الخطيبي. فهو نقد الاختلاف وتفجير الاسئلة وتشريح أو تفكيك الحالة الثبوتية والمستقرة.
ومنصور لا يحتفي كثيراً بالنص المكتوب قديماً أو حديثاً، وانما يستقرئ الوقائع. والبيئة بالمعنى العام. وهو غزير الانتاج، عميق الفكرة، وربما أفاده تواصله المستمر مع حقول الفكر والحداثة تقديم زاد معرفي مختلف عن السائد والمألوف.
أعمدة منصور تبرهن بجلاء صعوبة الفصل «العاسف» بين الصحفي والاعلامي بعامة، وبين الأدبي والثقافي المادي والمعنوي، الثقافي والسياسي، بخاصة. كما يؤكد أن النص حتى لو كان يتعاطى مع الهم اليومي والشأن السياسي والوقائع الحياتية يمكن عند امتلاك المعرفة والموهبة أن يتحول المقال الآني الى آماد بعيدة، وأن يمتص رحيق معارف شتى وفنون أدبية ومعرفية غنية ومتنوعة.
احتفاؤه بالسرد، واشتغاله السري والصامت بعمل سردي قادم قد يكون له شأن أي شأن.
ومنصور شديد اليقظة حد الادهاش، فهو يقظ الحس والوجدان والضمير إزاء الشأن العام. يكتب الجملة وكأنها جزء من نبض الفؤاد، ووجع الضمير.. ونزيف الوجدان.
غزت المآسي المجتمعية والهم اليومي قلبه اليقظ والحي فترنح تحت ضربات قاسية لا ترحم.
حبه الكبير وجعه الأبدي، حبه لأسرته الصغيرة ابنتيه... وزوجته أروى.
منصور وأروى مشروع ابداعي بامتياز يذكراني بنبيلة إبراهيم وعز الدين اسماعيل.
تشتغل أروى، القاصة والباحثة، في حقل الفلكلوريات. وقد أحرزت إنجازات رائعة ومهمة في التوثيق. فأعادت إحياء تراث المدرهة في صنعاء، والرقصات الشعبية في عدن، وعقدت أكثر من ندوة ناجحة عن طاعة ولي الأمر. وهي تواصل بدأب توثيق التراث الشعبي بجهودها البسيطة والمتواضعة، وتعطي للعمل الطوعي معناه وقيمته الانسانية الزاهية. والدكتورة نبيلة ابراهيم باحثة في علم الفلكلور. وقد تركت ثورة عظيمة في تدوين وتوثيق ونقد هذا التراث الرائع.
«من معيري قلباً صحيحاً ولو طر
فة عين إن كان قلب يعار».
آخ يا منصور إن قلبك الذي أضناه الحب الحي لأسرتك الصغيرة، وحبك للناس، وإحساسك الانساني بمعاناتهم، والهم الفاجع من استشراف أفق داكن، تدرك بذكائك الثاقب ما يحمله لشعب محكوم بالفساد والطغيان.
قلبك الطيب الذي أدمته المعاناة. وأضنته رزايا واقع دام، لا مكان فيه للعقل، ولامساحة للتسامح، ولا قبول بالتحاور.
 عمودك في «النداء» قبل عدة أسابيع عن معاناة ما بعد حرب 94، ذكرني بلقائنا في عدن عقب هذه الحرب اللعينة بعد بضعة ايام من انتصار الحاكم «الوحدوي» على شعبه «الانفصالي».
هل تذكر يا منصور الزين مكي، والغوري، وصانع الصباح - الجريك؟ ذكرت زمن اليد المقطوعة، وهو زمن «كليل العاشقين»، وهل لقطع اليد صلة ما بوهن القلب الذي تتداعى له قلوب قرائك ومحبيك؟
أيها الصعلوك الرائع قلبك المنشر على مدى الاسبوع في «النداء»، و«التجمع»، و«الصباح»، و«الثوري» شاهد انكسارنا وفشلنا كشعب وأمة، بعد ان عجزنا عن كبح الغزاة الآتين والنابتين كالفطر في ليلة حالكة. عزاء قلبك أنه يتسع لملايين القلوب! ويفيض حباً بعمق واتساع الكلمة الشجرة.
قلبك- قلمك «غير السليم من الحب» تتعشقه العطاش المشرئبة كرؤية الزبيري، ويخافه الوالغون في الدم والمتكسبون بالدين آكلوا السحت، كوصف المعري.
قلمك- قلبك المزدوج القراء كنقد الخطيبيين. وإشكالي السؤال عند المعري «أبكت تلكم الحمامة أم غنت؟!...» أو وحدة الأضداد ونضالها ابتداء من هر قليطس مروراً بنفي النّفي عند هيجل، وصولاً إلى وحدة ونضال الأضداد عند ماركس.
قلمك المنتظر مرشح من الامبريالية الأبهى «جميلة علي رجاء» كتسمية الفقيد الكبير محمد عودة، ويتطلع إليه بزهو «جون لامبير» الذي قدم للثقافة والفن في اليمن ما عجزت عن مثله مؤسساتنا!