الجنوب اليمني قبل الاستقلال وبعده

الجنوب اليمني قبل الاستقلال وبعده*

كان الإمام يحيى يقول: "قبَّح الله ملكاً يدخل عليه من هو أعلم منه".
كان اعتداده بنفسه قوياً، وبأنه خليفة الله في الأرض وخليفة رسول الله. ويرى أنه أولى بالاستيلاء على الحرمين. وما اعتبر الحرب واسترجاع الحدود اليمنية إلا مبرراً. وإلا فكان عنده أمل بأن يسيطر على الحرمين الشريفين ويخلصهما من آل سعود.
وقد بلور هذا المعنى الأستاذ الزبيري في أبيات يهجو فيها الإمام يحيى قائلاً:
فيا ملكاً لجَّ في بطشه
وداس البلاد وأخنى بها
ودبَّ لأمته في الظلام
دبيب اللصوص لأسلابها
وذرَّ الغبار بأجفانها
وصبَّ السموم بأعصابها
وقال لها: مصر أرض الفجور
تسير الخمور بأبوابها
وبغداد عاصمة الملحدين
ومكة نهب لأعرابها
وما الأرض إلا لنا وحدنا
ولكنهم غالطونا بها
فتحت تأثير هذا الوهم، الذي يسيطر على الإمام بأنه الأحق، اتفق مع الانكليز على هدنة ووقع معهم معاهدة لأربعين عاماً سنة 1934 ليتفرغ للحرب مع السعودية، وحينما يفرغ من الحرب مع السعودية سيستأنف الحرب مع الانكليز، لأنه كان يقول: "خذ الفروض بالعهود". فهو في حال الضرورة يهادن، ولكنه حينما تزول الضرورة ينقض العهد. كان هذا دأب الإمام يحيى دائماً.
وعمل الانكليز في هذه الفترة أيضاً لتحقيق الكيان المستقل في الجنوب، وظلوا يبحثون عمن يتبنون هذه الفكرة من أبناء الجنوب. ولكن أبناء المحميات كانوا أشتاتاً، أعطوا لقب السلاطين ولكن مثل لقب "العمدة"، أو لقب الشيخ، وقرروا لهم مرتبات ولكن لم يكن عند هؤلاء السلاطين فكرة عن الدولة ولا يمكن أن تبنى دولة في هذه المنطقة، لأن السكان قليلون والأرض متسعة والعلم مفقود. يعني كانت مقومات الدولة مفقودة، وكان اليمن يمضي نحو التأخر والعزلة بمرور الأيام، وأصيب الإمام بهزائم متوالية: هُزم على يد السعوديين، وهُزم على يد الانكليز، وقد أسقطت هذه الهزائم هيبته في اليمن, فظل ينكمش ولا يطمح. ونشأت فكرة الأحرار، كما تحدثنا، لأن اليمن أصبح عرضة للضياع، قد تأتي إيطاليا التي كان لها مطامع، أو قد يفكر الانكليز يوماً باحتلال اليمن، لكن الانكليز أرادوا أن يوجدوا هذا الكيان.
فلما قامت حركة الأحرار كان أبناء الجنوب مرتبطين بها. حتى قادة الانفصال فيما بعد، كانوا من أكثر المتحمسين لفكرة الأحرار لكي يتحرر اليمن من الحكم المتخلف، ويقوم فيه حكم عصري يشمل المنطقة كلها. وكان فيهم محمد علي الجفري (من مؤسسي كتيبة الشباب اليمني في القاهرة عام 1940) رئيس رابطة أبناء الجنوب، والسيد شيخان الحبشي، وسالم الصافي. كل هؤلاء أصبحوا فيما بعد قادة لدعوة الانفصال.
بعد قيام حركة الأحرار وقيام الحكم الدستوري عام 1948 وقتل الإمام يحيى وسقوط حكمه، تشكلت حكومة لم يفكر الأحرار بأن يُدخلوا فيها عناصر من أبناء الجنوب، بل جعلوا كل الحكومة من الشمال فقط. بعد هذا بدأ الانكليز يلفتون نظر أبناء الجنوب إلى أن الشماليين إنما يستغلونهم للوقوف مع الشمال، وهم حينما شكلوا الحكومة لم يدخلوا أياً منهم في الحسبان، كأنهم ليسوا مواطنين. فبدأ، من بعد 1948 وفشل حركة الأحرار، التفكير عند المثقفين من أبناء الجنوب بإيجاد كيان خاص بهم، أوحى الانكليز لهم باسم برَّاق يجلب مشاعر العرب لتدعيم هذا الكيان، فأعطوهم تسمية "الجنوب العربي" ليفصلوا بينه وبين الشمال في اليمن، يبقى محصورا في المنطقة التي يهيمن عليها الإمام يحيى إلى حدود المملكة العربية السعودية. أما ما عداها فاسم آخر لا يتصل باليمن بشيء: الجنوب العربي.
ظل الصراع حول هذه التسمية. وكان على أحرار اليمن أن يقاوموها. وقد تبنى هذه التسمية رابطة أبناء الجنوب بقيادة محمد علي الجفري وشيخان الحبشي وسالم الصافي، الذين كانوا يعملون مع الأحرار من أجل تحقيق يمن واحد والتخلص من الاستعمار. تبلورت هذه الفكرة وظلوا يدعون الناس إليها. لم يقبل الإمام أحمد بهذه التسمية، وكان يرفض إذا جاءت إلى الجامعة العربية أية مذكرة تحمل اسم الجنوب العربي، ويصر على أن تكون التسمية الجنوب اليمني.
وعندما قام عبد الناصر طامحاً باسم العروبة ليسيطر على البلاد العربية باسم هذه العروبة، بدأ يقوي اسم الجنوب العربي ويدعم رابطة أبناء الجنوب نكاية بالإمام، غير عابئ بفصل الجنوب عن الشمال، لأن كلمة "العربي" كانت تلهب مشاعره دائماً كشعار يطغى به على العالم العربي.
اختلف الأحرار مع رابطة أبناء الجنوب، ووقع انقسام شديد بينهم. فقام مؤتمر نقابات عمال عدن، بقيادة عبد الله الأصنج (وزير الخارجية السابق)، والعمال الذين في عدن أغلبهم من أبناء الشمال، فكانوا يتحمسون ويطلقون على أنفسهم "عمال جنوب اليمن" ولا يطلقون عليها الجنوب العربي. وبدأ الصراع بين المؤتمر العمالي ورابطة أبناء الجنوب. وتبنى عبد الناصر رابطة أبناء الجنوب وظل يدعمها ويقويها. وكان الإمام يحترق. ولم تسجل الجامعة العربية في محاضرها اسم الجنوب العربي بل الجنوب اليمني.
وفكر الانكليز فيما بعد بإقامة دولة "اتحاد إمارات الجنوب العربي" وجمع السلاطين في مجلس من أجل تحقيق هذا الانفصال وإقامة الدولة. تواصل الصراع. وكان الأذكياء من اليمنيين والمفكرون كلما نبهوا المصريين إلى أن هذه التسمية خطرة لأنها تقسم اليمن قسمين، كانوا يقولون: "التسمية ليست مهمة، ماذا ستعملون؟ فهل أنتم قادرون على أن تفعلوا شيئاً؟". وظلوا يدعمون رابطة أبناء الجنوب. فلما اختلفوا معها عادوا لتقوية المؤتمر العمالي ويتمسكون بالأصنج ويقاطعون الرابطة. وانضم إلى الرابطة السلطان علي عبد الكريم الذي كان سلطاناً للحج، خرج على الانكليز وانضم إليهم إيماناً بالعروبة!!
وأخيراً أهملوا الرابطة وشدوا أزر عبد الله الأصنج.
وتبلورت الحركة بتكوين "جبهة تحرير جنوب اليمن". رجع المصريون فيما بعد لاستعمال اسم "جنوب اليمن". بدأ عبد الله الأصنج بحركته العمالية على أساس أن تكون حركة يمنية وتحقق الوحدة مع اليمن الواحد. وأراد المصريون للانقسام أن يتعمق، فأمسكوا بقحطان الشعبي (أول رئيس لليمن الجنوبي بعد الاستقلال) زعيم الجبهة القومية، وألغوا الأصنج! وساروا وقتاً مع قحطان الشعبي الذي كان مرتبطاً برابطة أبناء الجنوب وعضواً فيها يدعو للفصل، وأخيراً تبنى الجبهة القومية.
فشل قحطان الشعبي، فعادوا يمسكون بعبد القوي مكاوي. جاءوا بالمكاوي وضموه إلى الأصنج وأطلقوا جبهة التحرير خلال هذه الفترة. والموقف يتبلور على أساس أن هناك دولة مستقلة في الجنوب في مواجهة الجمهورية التي في الشمال، إلى أن تم جلاء الانكليز عام 1967. فجاءت الجبهة القومية وطمرت كل الفئات. ولم تقبل جبهة التحرير التي كان يدعمها عبد الناصر ويؤيدها، لأنه أيدها انتصرت الجبهة القومية.
رأى الانكليز أن يسلموا الأمور للجبهة القومية نكاية بالمصريين ونكاية بالوطنيين أيضاً الذين ظلوا يكافحون ضد الانكليز هذه المدة. فتولى قحطان الشعبي وأطلق عليها "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية"، وعنده مطمح بأنه سيستولي على الشمال أيضاً. وبدأ الصراع. ولكن مصر عادت تدعم الجبهة القومية واعترفت بها، وكانت أول من اعترف بقحطان الشعبي، وجمدت جبهة التحرير في القاهرة، وهي التي ظلت معها هذه المدة كلها، واعترفت بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
بدأ الشمال يتطلع لتحقيق الوحدة واستعادة الجنوب. فبعد جلاء الانكليز من الجنوب وخروج المصريين من الشمال جاء الوقت المناسب لأن تتحقق الوحدة بين البلدين وتتحقق الوحدة الوطنية. وقد كان كل الأحرار ينادون بهذا الشعار. وأصرت الجبهة القومية وبتدعيم من مصر على الانفصال لتبقى منفصلة عن الشمال باسم دولة مستقلة. والتجأ كل أبناء الجنوب: الرابطة وجبهة التحرير التي يرأسها مكاوي، إلى صنعاء مطالبين بتحقيق الوحدة.
أصبح الصراع الآن بين الشمال والجنوب. وأسس الشمال مجلساً وطنياً وخصص فيه اثني عشر مقعداً شاغراً لممثلي الجنوب على اعتبار أن الجنوب جزء لا يتجزأ من اليمن وإنما الظروف التي كانت تقيد حكومة صنعاء خلال هذه الفترة ظروف خارجية تحررت الآن منها فأصبح من حقها أن تطالب بإعادة الشطر الثاني؛ والصراع الآن قائم، فالجبهة القومية تنادي بالوحدة ولكن بشرط أن تكون الجبهة القومية هي المسيطرة وإخراج الرجعيين وإخراج أصحاب العهد البائد، أي الوحدة بشروط الثوريين.
الموقف إلى اليوم على هذا النحو: أبناء الجنوب، من جبهة التحرير والرابطة، مع حكومة صنعاء، يطالبون بتحقيق الوحدة!
 والوضع الطبيعي أن يشمل اليمن عدن والمحميات وحضرموت، وأن تقوم حكومة مركزية تتألف من جميع أبناء المنطقة. ولكن الانفصال الآن يحارب بعنف. هذا ما يتعلق بالجنوب اليمني، خصصوا اثني عشر مقعداً في المجلس (في الشمال) للجنوب، على أساس أن يعقد أبناء الجنوب الموجودون في صنعاء وفي مناطق الجنوب، مؤتمراً وطنياً لينتخبوا اثني عشر عضواً من النواحي المختلفة في الجنوب ليمثلوا الجنوب في المجلس. وما تزال المقاعد شاغرة الآن.
 
* من مذكرات الأستاذ أحمد محمد نعمان
مراجعة وإعداد: علي محمد زيد