كي لا تكون مناورة

كي لا تكون مناورة - سامي غالب

اختار الرئيس علي عبدالله صالح المبادأة، فابتدر معارضيه المتكاثرين بمشروع تعديلات دستورية، يشمل نقاطاً جوهرية يتصدر بعضها مطالب أصيلة للمعارضة وتطلعات للمجتمع المدني، والحركة النسوية خصوصاً.
لا جدال في أن مكاسب سريعة سيحققها الحكم جراء المبادرة الرئاسية، أولها إرباك المعارضة عبر قسرها على إعادة جدولة قضاياها، واصطناع مطبات على طريقها نحو احتضان «الحالة الجنوبية»، واستثمار مشاعر النقمة لدى الناس جراء الغلاء وتردي الخدمات العامة.
على أن الإرباك، بعد ذلك، يمتد إلى الموقف الذي ستتخذه المعارضة إزاء البند الرئاسي العاشر الذي ينص على تخصيص نسبة 15٪_ للنساء في الهيئات المنتخبة. فمن المرجح أن يحرج هذا البند المعارضة، ويبعدها أكثر عن المنظمات النسوية في حال سارعت إلى ردود متشجنة دون تحوط للأشراك الرئاسية. ومعلوم أن أحزاب المشترك أخفقت مؤخراً في إيضاح موقفها بشأن تمثيل المرأة في البرلمان والمجالس المحلية، وتراخت في، إن لم تكن تعالت على، إدماج تطلعات النساء في برنامجها للاصلاح السياسي.
وأبعد من ذلك فإن المعارضة إذ تطالب باعتماد نظام التمثيل النسبي في الانتخابات البرلمانية، لم تكترث لهواجس المنظمات النسوية بشأن تمثيل المرأة في هذا النظام، والتزمت موقفاً حذراً، ولا أقول إنتهازياً، لدواع تتصل بالقيم السياسية الحاكمة لبعض أطرافها الرئيسيين. وبدلاً من الاشتغال مع هذه المنظمات من أجل تحالف سياسي مدني يحقق مطلب المعارضة بنظام التمثيل النسبي، وتطلعات النساء في حصة (كوتا قانونية أو توافقية) تمثيلية عبر هذا النظام، اكتفى قادة المشترك بترديد شعارات عن الحقوق السياسية للمرأة، حتى استنزفوا مصداقيتهم.
كذلك فإن الرئيس بالتزامه «كوتا قانونية»، يضمن لمبادرته تأييداً فورياً من منظمات مجتمع مدني محلية، ومباركة من منظمات دولية مؤثرة يتصدر اهتمامها دعم أية مبادرات لتحقيق تمييز ايجابي لصالح الفئات المهمشة، وفي المقدمة النساء.
بمعزل عن «التأويلات المرحة» لتخفيض مدة الرئاسة إلى 5 سنوات (وبالتالي البرلمان بغرفتيه الى 4 سنوات)، فإن هذه البنود سبق أن التزم الرئيس بها في برنامجه الانتخابي، علاوة على كونها حاجة ضرورية للديمقراطية اليمنية: حاجة للمحكوم قبل الحاكم.
على أن البند الأول في مبادرة الرئيس والذي ينص على اعتماد «نظام حكم رئاسي كامل»، يلبي حاجة الحاكم ولا يأبه لاحتياجات المحكوم.
في بلدٍ غريب عن التقاليد الديمقراطية، وفي مسيس حاجة لإنعاش مؤسساته الدستورية والسياسية، فإن «النظام الرئاسي الكامل» من شأنه أن يكرِّس طغيان الموقع التنفيذي الأول، ويعزز دور مؤسسات القوة على حساب المؤسسات التمثيلية (برلمان ومجالس محلية). وبوسع المعارضة التي تطالب بنظام برلماني أن تجعل من هذا البند نقطة ارتكاز لهجومها المضاد.
ليس واضحاً في المبادرة الرئاسية ما إذا كان الحكم المحلي الموعود يتجاوز الاختصاصات التي يمنحها مشروع تعديلات قانون السلطة المحلية الذي أعدته وزارة الادارة المحلية مؤخراً، للمجالس المحلية. فباستثناء إنشاء شرطة محلية في المحافظات، فإن المبادرة تعتمد أسلوب «الغموض البناء»، في انتظار ما سيخرج من جعبة اللقاء المشترك في الأسابيع المقبلة.
المحقق أن اليمن في حاجة إلى أكثر من توسيع صلاحيات المجالس المحلية أو تحوير الإسم من سلطة محلية إلى حكم محلي. ولعلَّ في «مشروع الاستراتيجية الوطنية لتعزيز اللامركزية» الذي أنجزته وزارة الإدارة المحلية، الكثير مما يفيد في تظهير مثالب طغيان المركز على المحافظات، وأولوية الحاجة إلى اعتماد تقسيم إداري جديد يلبي متطلبات التنمية، ويحوِّل العاصمة الطاغية بالتدريج إلى «نهر قليل الروافد كثير المصاب»، على حد تعبير المفكر المصري الراحل جمال حمدان. بيد أن الخوض في إعادة هيكلة التقسيم الإداري، كمدخل إلى حكم محلي حقيقي، لا مجرد ذر طواغيت صغار على الوحدات الإدارية، رهن بتوفير بيئة مواتية لحوار مسؤول، متحرر من عقد التاريخ ورُهاب الجغرافيا لدى الحاكمين وبعض المحكومين. وليس متصوراً تحقق حوار كهذا قبل انجاز تسوية تاريخية لـ«المسألة الجنوبية». وإلا فإن البحث في قضايا تقع في صميم حياة السكان هناك سيعني أن النخبة السياسية في العاصمة، ما تزال منغمسة في دور الوصي المستعلي على الشعب.
الثابت أن تكافؤ الفرص بين الوحدات الإدارية، بلوغاً إلى عدالة مكانية، يتطلب ضبط جموح المركز (العاصمة) أولاً. وستتجلى مصداقية المبادرة حال بدأ المركز بالانشغال بالجنوب، حيث نقطة الإنطلاق المتاحة لتجاوز الأزمات الوطنية.
وفي الموازاة فإن السلطة مطالبة بتقديم ضمانات إلى المعارضة، تؤكد بأن المبادرة الرئاسية ليست محض مناورة جديدة، وأولى الضمانات الكف عن الألاعيب الصغيرة المكرورة، وإسقاط ورقة الاحزاب (الإدارية، المؤتمرية، المؤتمرة تمويلاً)، قبل التئام طاولة الحوار الموعود.