الديمقراطية والدولة الريعية

الديمقراطية والدولة الريعية - أبوبكر السقاف

الدولة الحديثة أو البرجوازية تميزت بسمات أساسية جعلتها تختلف اختلافاً نوعياً وشاملاً في الوقت نفسه عن الدولة القديمة أو الوسيطة، فهي تقوم على العقلانية في الفكر والنفعية في المجتمع والسياسة، وترفع لواء الوطنية في الأيديولوجيا. ومبدأ النفعية هو ما يعبر عنه بكلمة المصلحة. وجماع هذه المكونات هو الذي يصنع الديمقراطية، ولا تكون في التزامها بالتعددية السياسية إلا معبرة عن التعدد الاجتماعي والطبقي. ولذا فإن رفض الديمقراطية يقترن بإنكار وجود الطبقات.
ومع صعود دول النفط العربية بدأ الاهتمام بفكر الريع في الدراسات الاقتصادية وبدرجة أقل في الدراسات السياسية، إلى حد يمكن معه القول بأن العلاقة بين الدولة الريعية أو الاقتصاد الريعي والديمقراطية لم تدرس بصورة معمقة وظلت ملمحاً يشار إليه في سياق الدراسات الاقتصادية، بل أراد بعضنا في بداية «الفورة» النفطية والحج إلىَ النفط أن يشيد نظاماً عربياً جديداً يقوم على زواج شرعي بين المال النفطي والقوة العاملة العربية بما في ذلك الكفايات العلمية. وعندما طرح اليمين الجديد وبوساطة دولته الامبريالية الديمقراطية هدفا يجب فرضه على العالمين العربي والاسلامي، تم ببساطة تجاوز السؤال.فأصبحت الديمقراطية ممكنة في السعودية ومصر والجزائر وجزر القمر، وبدت ديناً جديدا، على الجميع اعتناقه طوعاً أو كرهاً. ولفحص هذا الإمكان لا بد أولاً من تعريف الريع. وقد كتب آدم سميث في كتابه المشهور «بحث في طبيعة وأسباب ثورة الأمم»: «يدخل الريع في تكوين الأسعار بشكل مختلف عن الأجور والأرباح، فإذا كان ارتفاع أو انخفاض الأجور والأرباح يعتبر سبباً لارتفاع أو انخفاض الأسعار، فإن ارتفاع أو انخفاض الريع يعتبر نتيجة لارتفاع أو انخفاض الأسعار». هذا وصف لاختلاف الريع اختلافاً جذرياً عن صور الدخل الأخرى. وعند قطب اقتصادي آخر هو ديفيد ريكاردو يطلق الريع على «كل أشكال الدخول التي مصدرها هبات الطبيعة». والنظريات الاقتصادية الحديثة ترى الريع دخلا غير مرتبط بدورة الانتاج، ومن ثم فهو دخل غير مكتسب، وهذه نظرية متأثرة بإحدى أشهر نظريات ماكس فيبر التي تربط بين الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية في كتابه المعروف «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، حيث العمل هو وسيلة الخلاص في الدنيا والآخرة . وجدير بالإشارة هنا رأي فقيه حنفي هو الشيباني محمد بن الحسن، صاحب «كتاب المخارج في الحيل» تحقيق جوزيف شاخت ليبزغ: هنريكس،1930، الذي يكاد ينفرد بطرح فكرة تشبه ما جاء عند فيبر في سياق مفلسف ومعقد، ومفادها أن العمل ضرب من العبادة .
 الاقتصاديون الكلاسيكيون الغربيون يميلون الى رفض الريع، بسبب احترامهم العمل. ولعل ماركس يقف بين أكثرهم رفضاً وتمجيداً للعمل، الذي وضعه في النقطة المحورية لنظريته الاقتصادية.
ما يهمنا هنا هو السلوك الاجتماعي والسياسي للفئة التي تستولي على الريع، وهو يتسم بالتعريف بغياب الذهنية الإنتاجية، كما أنها لا تساهم في الانتاج، فالنفط وهو مصدر الثروة الأساسي في دول ذات ريع اقتصادي، أودول ريعية بصورة كاملة، يُستخرج ولا يُصنع، كما لاحظ الزميل غسان سلامة. وتقوم الشركات الغربية (أوروبا وأمريكا) بهذا العمل في كل مستوياته، من البحث حتى توصيل السلعة الى المستهلك. والمنظم (وهو غير المستثمر) عند عالم الاقتصاد شومبيتر، هو محرك الحياة الاقتصادية (راجع إن شئت في التعريفات «الرأسمالية»)، وهو نقيض ملوك وأمراء وشيوخ وضباط الريع من حيث الوعي والسلوك والقيم التي تحكم السلوك. وهذا الجانب عبر عنه الزميل أحمد النجار بصك مصطلح مدهش: «البطالة الاختيارية»، في سياق حديث عن البطالة في البلدان العربية، وهي في مقدمة دول العالم في هذا المضمار أيضاً. وهي بطالة يلجأ إليها صاحبها لأنه لا يحتاج إلى العمل، فدخله يقدم له اكثر من ما يحتاج. والحديث لا يجري عن الأمراء ومن في حكمهم، بل عن «مواطنين» في السعودية والخليج خارج دائرة «الكبار» من المترفين في الأرض. نتاج فاقع للدولة الريعية.
 وهذه الدولة يعتمد اقتصادها على الخارج، وهي حال خاصة من الاقتصاد الريعي، وفيها تستولي الطبقة السياسية الحاكمة على المال العام، وتبني سلطتها عليه، إذ تقوم بتوزيعه أرزاقاً وهبات، وكل ما يجري في حياتها الاقتصادية ينبع من هذا النبع ويصب فيه. وتبعيتها للخارج الامبريالي مزدوجة: اقتصادية، وسياسية. وتركيز الثروة والسلطة في هذا السياق في أيدٍ قليلة متواشج بهذه التبعية المزدوجة. وتخلو هذه الدولة من أي تشريع ضريبي هو عماد الدولة البرجوازية الحديثة والمعاصرة، لأن المجتمع والدولة يدوران خارج فلك الانتاج: علماً وثقافة وسلوكاً. وقد تجاوز تأثير الدولة الريعية حدودها الى الدول العربية الاخرى سواءً أكانت ذات اقتصاد شبه ريعي أو ريعي. وبسبب هذا التأثير زاد فيها اعتماد مبدأ الامتيازات على القانون الصوري في تنظيم علاقات الدولة بالأفراد والجماعات. ويرى فؤاد عجمي محقا، وإن في إطار عدائه الفيزيولوجي للعرب والفكرة القومية العربية، أن دول النفط توزع الأرزاق في الداخل، وكذلك في الخارج، وتتخذ من فكرة القومية العربية ستاراً لهذه العملية، مما أدى الى ظهور نمط التوزيع الريعي بين الدول العربية. وما لا يهتم به فؤاد أن هذا التوزيع ستار يقوض مقومات التضامن والتعاون بين هذه الدول، فالنفط ضاعف وعمق عوائق الوحدة العربية، ويسر على الامبريالية الغربية وأْد كل إمكان لها، بالضغط السياسي والاقتصادي وبالقوة المادية القاتلة التي أصبحت المفضلة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين والواحد والعشرين.
ان المواطنين الذين يحصلون على الخدمات المجانية في دولة الريع لا تشبه علاقاتهم بدولتهم، علاقة المواطنين في الغرب بدولة الرفاهية التي بدأت مسيرتها منذ إصلاحات بسمارك في نهاية القرن التاسع عشر في المانيا بتقديم الخدمات خوفاً من قوة العمالة والاشتراكية الصاعدة. انهم رعايا. كما أن الاقتصاد كله ليس رأسمالياً بالدلالة الصارمة للكلمة، فلا وجود للمخاطرة ولا المبادرة، والشركات الكبيرة في مجال الخدمات والانتاج عائلية بامتياز، ولا تذكر في شيء بتلك العائلات العصامية التي نشأت داخل المجتمعات الرأسمالية الغربية ونجد صورها الخلابة في أدب دوس باروس الأمريكي، وتوماس مان الألماني ودرايزر الأمريكي، تمثيلاً لا حصراً.
إن الاقتصاد في الدولة الريعية وشبه الريعية نقيض اسمه، لأنه يقوم على الإنفاق. وهذا يعود بنا القهقرىَ الى العبقري الحضرمي الذي وضع الطور الاقتصادي في المكان الثالث والأخير من عمر دولة الاستيراد، لأن الاقتصادي تابع للعسكري/ السياسي، فالدولة القوية هي القادرة على الإنفاق وشراء الولاء والذمم وإرهاب الأعداء. كتب الباحث الفرنسي ميشيل سوريا عن سورية: «من غير الضروري أن تكون خبيراً في الانثروبولوجيا الاقتصادية لكي تكتشف أن مصنعا من مصانع القطاع العام هناك لا يسير وفق القواعد التي يسير عليها مصنع مشابه في فرنسا. وذلك أن سبب وجوده الحقيقي ليس تحقيق الارباح بقدر ما هو فتح الباب أمام إنفاق. هذا الإنفاق جزء من استراتيجية السلطة السياسية، ويشكل بالنسبة لها مصدراً جديداً للقوة». إن علاقات السيطرة سابقة زمنياً على علاقات الاستقلال واقوى منها في التحليل الاخير. ذلك لأن السلطة تكتسب بالعصبية، وهذه توصل الى الرئاسة، ولها السيطرة على آلة الدولة وتحديداً قرار الإنفاق. فالهرم هنا مقلوب عمّا هو عليه في التصور الكلاسيكي للاقتصاد السياسي. ان القلب واضح في عبارة ابن خلدون: «الجاه يجلب المال»، وليس العكس.
 هذا في سورية وإن كان بها ملامح شبه ريعية إلا أنها أكثر عصرية من دول الريع النفطية في المستويات كافة. إن النفقات أهم من الواردات دائماً في هذه الدول، لأنها في صلب اللعبة السياسية: لعبة شراء الولاء (سمير امين، «الامة العربية». وهنا جذر الاستقلال النسبي للدولة عن المواطنين والمجتمع، سواء أكانت الدولة ريعية أو شبه ريعية. فالجمهورية العربية اليمنية حتى نهاية الثمانينيات كانت تعتمد في الحصول علي العملات الحرة على تحويلات العاملين في دول النفط وتشكل 85٪_ من هذه العملات، وانتاج النفط جاء ليسد الخسارة التي نتجت عن عودة العاملين في تلك الدول بعد غزو «القائد الضرورة» الكويت. ومصر والاردن وسورية والمغرب اعتمدت وتعتمد على تحويلات المغتربين من أبنائها وبناتها، ما جعلها قريبة من دول شبه ريعية. ويمكن اعتبار المعونات الأجنبية في هذا السياق من صور الريع. ويقدر الاقتصاديون العرب المكونات الخارجية للدخل غير الخاضعة لسيطرة الدولة العربية في بداية التسعينات من القرن الماضي بنحو 45٪_ في مصر. أثر هذا المال النفطي في سلوك وقيم العرب في الدول شبه الريعية: الاردن ومصر واليمن، في مجال القيم والاخلاق، تأثيراً مدمراً بدءاً من قيمة العمل، فقد أصبح اللا عمل هو الممجد، وليس العمل، وهذا تصور يقوض أساس الانتاج: العمل*. وازداد هذا التأثير قوة ونطاقاً بفضل سيطرة المال النفطي على الفضائيات وانتاج ثقافة التسلية ضداً على الفن والثقافة. وبوساطة الخبر والصورة سيطر هذا المال على الديني والقيمي في سماء الاعلام، الذي يمزج الموعظة المتشددة وسبل الفتاوى بأحدث الرقصات الغربية، فأصبح «الكليب» سيد أغاني الطرب والاعلانات، فتم تسليع كل شيء: الدين والقيم والذوق. وأصبح جسد المرأة مكوناً محورياً في هذا التسليع، فأصبحت تعيد صورة الجارية في العصور القديمة.
إن تقويض فكرة العمل بما هي قيمة، والفصل بينه والعائد، وازدراء الكسب الشريف، والانتاج الذي يتطلب ترشيداً عقلانياً، هو أخطر ما أصاب الذهنية العربية من الأضرار، فقد شل مركز القوة والكرامة: العمل.
فهل يمكن الحديث عن ديمقراطية في مجتمع غير إنتاجي؟** إن الاستيلاء على الدولة هو محور المحاور في التفكير السياسي، ولا أقول الفكر السياسي. وهذا مرتبط بالدولة الريعية وتخلف أشكال الريع الاقتصادي، وهو موصول النسب بالدولة السلطانية، التي تسري تعاليمها المضمرة والمعلنة في عقول العرب ووجدانهم، وهي دائماً تنويعات على «الاحكام السلطانية» القديمة. وهل يمكن أن يتزامن فعل ديمقراطي حقيقي مع نمط انتاج ريعي أو شبه ريعي وذهنية سلطانية هي مزيج من الاستبداد الفردي والتحريم والتأثيم والأثرة، التي الفرد والطبقة السياسية الحاكمة في غرائزها وشهواتها.
إن كل أشكال التجارب -المحاكاة - الديمقراطية في البلدان العربية قائم على:
1 - المرحلة الليبرالية في العهد الاستعماري.
2 - المرحلة الليبرالية بعد الاستقلال التي أطاحها السيد الانقلاب، فأحيا الدولة السلطانية في طبقات متعددة: الانكشارية الجديدة، القبيلية، والطائفية.
3 - بما أن الدولة العربية الحديثة نتاج توازن دولي، فقد أصبح من شروط علاقاتها بالغرب الامبريالي استحداث ديكور ديمقراطي يحاكي برانياً الأنموذج فيبدو وكأن رسالة التمدين التي يقوم بها الرجل الأبيض على ما يرام.
وعندما استبدلت الولايات المتحدة بالمحاربة البولسية للإرهاب، شن الحروب الامبريالية على الدول والمجتمعات العربية الاسلامية: افغانستان والعراق وفلسطين، فالتقت مع الأنظمة النابعة في مستوى جديد من التحالف هو المشاركة في الحرب على الارهاب.
وفككت سياسة الحرب على الارهاب عرى غير مجتمع عربي وإسلامي، فقوضت بذلك مقومات الدولة الريعية السياسية والمعنوية، فأسفر المشهد السياسي عن صراع بين السنة والشيعة يكتسح المشرق العربي وباكستان، ويراد له أن يضفي العروبة والاسلام على حرب أمريكا على ايران من ناحية والزج بالعرب في حرب الأعوام المائة.
وبذلك تقوم دول الريع التي جعلت النفط العربي أداة السيطرة الأمريكية الأولى في المجال الدولي، بتقديم البشر والثروات فدية لبقائها في ظل حاميها وراعيها الأمريكي، ويتفق الحامي والمحمي الآن بعد ترحال في البحث عن الديمقراطية الأصفى وحقوق الانسان. على أن الاستقرار، الذي أصبح المصلحة الأولى لأمريكا هو الجدير بالرعاية.
 وإذا كانت الوحدة الوطنية المجتمعية المقدمة التاريخية الأولى لنشأة أية تجربة ديمقراطية، فإن البلدان العربية ومعظمها مجتمعات منقسمة على نفسها، فإن هذا الانقسام يغدو تشظيا يلهبه سعار التشدد الديني المذهبي ورايات الطوائف، وتتضاعف العوائق أمام تمدين هذه البلدان وإمكان الشروع في تجربة ديمقراطية، وبذلك يتفاقم الدور المدمر للثقافة السياسية العربية، التي تحول بين العرب وبناء الدولة الحديثة. والدولة الريعية في مركز الدائرة من هذه المشكلة التاريخية.
9/9/2007
 
* رأس كاتب هذه السطور في العامين 1983 - 1984مجموعة تكونت من أساتذة في قسم الفلسفة والاجتماع بجامعة صنعاء، للقيام ببحث ميداني مولته جامعة الامم المتحدة بطوكيو بوساطة منتدى العالم الثالث الذي رأسه الراحل العزيز اسماعيل صبري عبدالله، وكان جزءاً من بحث شامل في الاردن ومصر لمعرفة تأثير المال النفطي في الأخلاق والقيم في الاقطار العربية غير النفطية. وتستحق النتائج عرضاً مستقلاً.
** النخبة الحاكمة في الدولة الريعية ليست حاملاً إجتماعياً للديمقراطية، لأن الشغل الشاغل للفاعلين السياسيين فيها هو الامساك والسيطرة على الريع والاستفراد به. أما في الاقتصاد الانتاجي لا يجري الصراع على السلطة على هذه المشكلة، لأن الناس يؤمّنون حاجاتهم ويلبون مطالبهم بوساطة العمل والدخول في دائرة الانتاج، وهذا يعني أن الجهد والعمل الانساني هو الأساس فتتم الدورة الدموية الصحية في جنبات المجتمع. الدولة الريعية تلد الاستبداد والتسلط. الدولة تسلطية سلطانية، يحمي فيها مالك الثروة نفسه وعشيرته واسرته والقاعدة الاجتماعية التي يستند اليها. وفي مجتمع كهذا يستحيل بناء أية تجربة ديمقراطية. التناقضات بين الديمقراطية والاقتصاد الريعي لا يمكن تجاوزه إلا بالخروج على مقومات الدولة الريعية والاقتصادات العربية ريعية وإن تنوع الريع، وتباينت شروطه.
       هذه دولة كسيحة وقعيدة تقوض الفرد والمجتمع. والدخل الوطني هنا مجاز.