جثة طافية! (2)

«مصر تسبقنا في كل شيء»، قالها لي أحد محاوريّ في دمشق.
وأنا رددت من بعده هامسة: «في الخير والشر». والخير كان، والشر تلاه.
«ونحن نلحق بعدها»، أكمل الناشط، ثم صمت.
كان يتحدث عن ظاهرة «التأسلم الشعبي». وكان على حق. فسوريا، ككثير من البلدان العربية، أصيبت بعدوى ظاهرة التأسلم الشعبي التي انطلقت، وقبلها حركة الإخوان المسلمين، من مصر. بيد أن علاقة الارتباط بين مصر وسوريا، ثم المحاكاة، لا تقتصر على فترتنا المعاصرة فحسب، بل تعود إذا حددناها بتاريخ قريب إلى نحو قرنين، كان فيها سَبق، وكان فيها مَرار.
بدأت عندما احتلت مصر بقيادة إبراهيم باشا (ابن محمد علي باشا) سوريا في الفترة بين 1831 و1840. كانت محاولة من قبل والده لإضعاف الدولة العثمانية، التي لجأت إليه من قبل كي يكسر شوكة الدولة الوهابية الجديدة في الجزيرة العربية، وقد فعل. وقناعة منه في الوقت ذاته يعود تاريخها إلى عام 1810، بأن بلاد الشام كانت امتداداً استراتيجياً لمصر، أو على حد قوله: «إن سورية لازمة لسلامة مصر»(1).
 كانت فترة احتلال قصيرة، يمكن النظر إليها وإلى نتائجها من زوايا عديدة، فيها إصلاحات وفيها فساد وظلم وسخرة. لكني أشير إليها لسبب لفت انتباهي: من أولى الإصلاحات الاجتماعية التي أسس لها إبراهيم باشا كان «فرض المساواة بين كافة عناصر المجتمع وفئاته على اختلاف انتماءاتهم الدينية والاجتماعية، وخصوصاً المساواة بين المسلمين وغيرهم»(2).
خصوصاً المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، أي المسيحيين واليهود.
لماذا كان ذلك ضرورياً؟
كان يفرض على غير المسلم التالي: منع ركوب الخيل، التزيي بزي يميزهم عن أقرانهم المسلمين، الابتعاد عن الطريق إذا صادف غير المسلم مسلماً يسير في الطريق نفسه. كما كانت لا تقبل شهادة المسيحي أو اليهودي (ولا حتى نصف شهادة المرأة التي نعرفها)، مهما علت منزلته، ضد المسلم.
ما فعله إبراهيم باشا أنه ببساطة أصدر قرارات سمحت لغير المسلمين بامتطاء الخيل، ولبس العمامات البيضاء على غرار المسلمين، وأصبحوا سواسية أمام جهات الدولة، وأصبح حكم المسلم والمسيحي واليهودي واحدا. وزاد على ذلك أن وضع صلاحيات كثيرة في يد الخواجة حنا البحري، وجعله فوق الجميع من الموظفين والكتبة. وكان أمراً غير مسبوق أثار غضب المسلمين «الذين كانوا يعدون تميزهم عن بقية أفراد المجتمع من غير المسلمين أساساً لاستقرار الحياة الاجتماعية»(3).
بكلمات أخرى: كانوا يعدون ذلك «التميز» «أمراً طبيعياً».
لا يعتبرونه «تمييزاً» ضد غير المسلمين. كان «حقاً» لهم من وجهة نظرهم. وكان على غير المسلمين من وجهة النظر هذه أن يتقبلوا وضعية «الضيف» في بلادٍ، هي بلادهم.
بطبيعة الحال أنا لن أطبق معايير حقوق الإنسان، التي وضعنا أسسها القانونية في النصف الأول من القرن العشرين، على ما كان عليه الحال آنذاك؛ لن يكون الأمر سليماً من الناحية المنهجية. لكن الإشارة إلى ذلك التمييز ضرورية، لأننا إلى اليوم نقرأ التاريخ بصورة «انتقائية».
ما زلنا نصر على قراءة لا ترى من السطور إلا كلمات متفرقة، ننزعها من سياقها ثم نربطها عنوة، ثم نلصقها على صفحة جديدة، ونقول: هكذا كان تاريخنا.
وملعون من قال غير ذلك.
والمسألة لا تتعلق فقط بقراءة كثير من الحركات الإسلامية السياسية للتاريخ، التي تسقط التاريخ أساساً من حسابها. أحدثكم عن القراءة الرسمية للدولة التي نقرأها في كتبنا ومناهجنا المدرسية. قراءة لا علاقة لها بما حدث على أرض الواقع. تضع غمامة على أعيننا، لونها وردي مريح، وتخلق في نفوسنا تلك القناعة بأننا «كنا في الواقع الأفضل»، وكنا نتعامل مع «غيرنا» ب»حب وتسامح».
ونحن في الواقع كنا ككل شعوب الأرض، غربية وشرقية، «غير إنسانيين» في تعاملنا مع «الغير».
 نحن مثل «غيرنا»!
أليس من الغريب أن يبدو ضرورياً التأكيد على ذلك؟!
لكنه ضروري، لأن هناك هالة من «القداسة» نضعها حول أنفسنا عندما نقرأ التاريخ، وهي «قداسة» تبرز منطق «اللاعقلانية» و»اللاتاريخ» الذي نتعامل به مع الماضي.
عندما نتحدث عن «السماحة» التي عُومل بها غير المسلمين في المشرق العربي قبل قرون مضت، يحلو لنا أن نتجاهل سيرة «المذابح» التي حدثت لغير المسلمين في تلك العصور.
ومثال على ذلك المذبحة التي تعرض لها في دمشق سكان «باب توما» المسيحيون في عام 1860. راح ضحيتها أكثر من ستة آلاف شخص، ذُبحوا عن بكرة أبيهم في ظرف عدة أيام لا أكثر ولا أقل.
وكنت أتساءل وأنا أمشي بين أزقة باب توما: لمَ تبدو لي رائحة جدرانها حزينة؟
لم أعرف إلا عندما بدأت أنبش في الكتب.
المسألة، أعزائي، ليست صدفة.
ليست نتاج سهو وغفلة.
لن تغفل عن ستة آلاف جثة إلا إذا كنت قاصداً.
بل تندرج جوهراً في صلب واقع الأزمة التي نعيشها.
يوم نقرأ التاريخ قراءة موضوعية منهجية، سنكتشف جذور الخلل في واقعنا، وعندما نفعل ذلك سنتمكن من تحديد سبل اجتثاثها، وزرع غرس جديد لمستقبل آخر. لكننا لم نفعل، لم نفعل ذلك في الماضي، ولا نفعله في حاضرنا.
إذن، هذه واحدة من علاقات الارتباط التي جمعت بين مصر وسوريا، كان فيها بعضاً من خير، وكان خيراً مرفوضاً، ثم لأسباب أخرى لا مجال لذكرها هنا، انقلب وجه دمشق والشام الباسم، واضطر إبراهيم باشا وقواته إلى الانسحاب، والعودة على أدراجه.
بعد هذا الحدث بقرن وأكثر، جمع التاريخ سوريا ومصر من جديد، هذه المرة ضمن إطار وحدة اختيارية.
وهذه علاقة أسَّستْ لدولة الحديد والنار من بعدها.
وللحديث بقية.
.......
«كل ما أردت قوله بسيط: كلنا في الخطيئة إنسان،
وأنها هنا كما أنها هناك،
لكنها لدينا أكبر، لأننا لا نريد أن نراها.
وهي لدينا أعظم، لأن الخوف يكمم أفواهنا.
وهي أفظع، لأن الصمت لدينا دواؤها.
وأننا يوم نُدرك ذلك سنواجه خطيئتنا... ونحيا.
نحيا كما نريد،
ونحيا بلا خطيئة»(4).
 
* هوامش:
(1) تاريخ دمشق وعلماؤها خلال الحكم المصري. 1831-1840، صفحات للدراسات والنشر، 2007.
(2) المرجع السابق
(3) المرجع السابق
(4) صدى الأنين، دار الساقي، 2005
[email protected]