تسقط الوحدة.. تعيش الوحدة

تسقط الوحدة.. تعيش الوحدة - مروان الغفوري

في مطعم يمني في القاهرة، اتجهت إلى المحاسب بعد فراغي من وجبة رديئة أُجبرت على حسمها بسلطة الدفع. مددت يدي بالحساب بحركة تشي بعدم ارتياح، شبيهة برقصة القديسة فيتوس،فاصطدمتْ بقصعة أعواد خلّة الأسنان. سقطت القصعة على الأرض وتقيأتْ ما بداخلها بطلاقة. هبطتُ محرجاً لِلملمة خطيئتي، بينما تفرّغ مالك المطعم، الذي يتواجد في النادر، لمراقبتي وأنا في هذه الحالة الغاشمة مبدياً انزعاجه لما صنعت بغمغمات على وزن السباب. أتممت مهمّتي بخفّة. أعدت الأعواد إلى مملكتها الصغيرة. وبطريقة سينمائية وضعت القصعة على طاولة المحاسب، وصوتي ينزلق بأمان: الحمدُ لله، عاد الزمان وعادت عدن. وبابتسمامة الناجي من مصيبة وشيكة دحرجت نصف عيني إلى وجه الحاج الماثل أمامي. تأكدت فيما بعد من معالم هذا الرجل المسنّ، وجنوبيّته، بيدَ أن صوته الذي دهسني حينئذٍ: لا والله، من يوم شفنا الجنابي في عدن ما عادت عدن.. هذا الصوت لم أكن بحاجة إلى التعرّف عليه، فهو تاريخي تماماً. أعني: صوت أبناء الأقاليم الصغيرة، دائماً، الذين يجبرونُ على الدخول في حكاية كبيرة ليسوا متأكّدين تماماً من صوابها أو حتميّتها. نسمع هذا الصوت كثيراً في الخارج، خاصةً من جانب الطلبة القادمين من المحافظات الجنوبية، الذين يدرس الغالب منهم على نفقته الشخصية أو بمعونات حادّة من منظمات خيرية، والتمييز هُنا جغرافي صرف, ونتابع عبر شبكة الانترنت ظهور مواقع جديدة متناسخة تطالب باستقلال الجنوب، بدولة حضرموت، باستقلال عدن، بدولة الجنوب العربي، وحتى باستقلال تعز. وفي كل مرة يشتبك فيها الأصدقاء أمامي في حديثٍ عن مايو، هل هو وحدة أم إلحاق، أكتفي دائماً بالقول: ليس نبلاً أن تكون وحدويّاً، كما ليست خطيئة أن يكون أحدُنا انفصاليّا. الأمر برمّته يقع ضمن دائرة اللذة والألم، وهي دوافع الحركة الاجتماعية الأكثر حضوراً، كما افترضها النفعيون منذ جيريمي بنتام؛ وتلميذه الأشهر جون ستيوارت ميل. فالإنسان كائن نفعيّ براجماتي بامتياز، حتى في تديّنه.. فهو لا يفتأ يسأل الله الحور العين والنعيم المقيم ثلاث مرات في كل مرّة يتذكر فيها اسم خالقه. وبطبيعة تطلعاته، فإن النوع البشري يتحرك باتجاه الاكتمال والاندماج ضمن كيانات أكبر حين تفرض هذه الفكرة، الاتحاد، نفسها كضرورة بشريّة ذات نفع حقيقي ومختبر. وفي الجانب الأيسر من الصورة، يسعى النوع البشري إلى فض اشتباكاته والعودة مرّة أخرى إلى العناصر الأوليّة المؤسسة للكيان الكبير، أعني عملية الانفصال، حين تقدّم فكرة الانفصال نفسها كضرورة واستجابة منطقية لحاجة ملحّة، تتعلق بتحسين فرصة الحياة والمعيشة، وهي منتهى السعي البشري تجاه the welfare state، أي دولة الرفاه. وعلى حد علمي، فلا يوجد باب للجنة اسمه: باب الوحدة، كما لا يوجد في النار دهليز اسمه: دهليز الانفصال. لذا، يستحسن أن يتخفف الوحدويون من الحمولة الكنَسِيّة. فهُناك قيم أكثر واقعية وتماسكاً من الفكرة الدينية الدوغمائية، في العقل البشري النفعي بتكوينه. كما أن هذه الأصوات المناهضة للوحدة، في اليمن، وهي تتكاثر مثل فطر كانديدا، ليست خائنة بالضرورة ولا هي قفزات على الخطوط الحمراء. والطريق الصحيح إلى فهمها لا يمر عبر شيطنتها. مضافاً إلى هذه الهوامش: استبعاد أن يكون التعامل الأمني والعسكري مع الآخر المختلف هو نزوع أو سلوك وحدوي من أي درجة، مهما حاول مدمنو القات، ذوو الشوارب المتشابهة، أن يبرروه. وربما كان العكس آكد. وكثيراً ما يتساءل أولئك الغاضبون الذين اكتشفوا فجأة أن الخطوط الحمراء أصبحت تقع إلى الخلف منهم: أليست الحقوق، كالمعيشة والصحة والتعليم والعدالة، أيضاً حمراء؟ وبطريقة أورهان باموق، التركي الشهير، سيقفز كل غاضب إلى الأعلى بصوته العنيف: اسمي أحمر، أنا أحمر.. صحتي حمراء. وهكذا، حتى يكتشف اللامبالي الوحيد أنه أصبح يعوم في مجرّة من الخطوط الحمراء لا يمكن أن يتحرك فيها لنصف متر واحد دون أن يجتاز خطّاً أحمرَ أو أكثر. وساعتئذٍ سيشتعل الصهريج بالجميع.
ما حدث مؤخّراً في المحافظات الجنوبية من حراك أميبيّ لسواعد الغضب الكامن ذكرني بمشهد ساحر للشاعر بهاء جاهين في رباعياته: "أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس/ جلجلت بيه، صحيوا الخدم والحرس. أنا المهرج، خفتوا ليه، صحيتوا ليه/ لا في إيدي سيف، ولا تحت منّي فرس". لكن المهرّج قد يربح الأداور الأكثر دراميّة، والهامشي كثيراً ما يكون هو المسؤول عن إحراق ستائر المسرح. لذا تبدو اللقطات الفارعة للقوة والحراسة والمكابرة واهنة ومخلخلة في كثير من النهايات الدرامية. وما هو مخيف بسبب سطحيته في الحكاية الجديدة بكل تفاصيلها هو الموقف الرسمي منذ التوتر حتى الاسترخاء والاستجابة.. حيثُ بدا الأمر وكأن المؤجج الرئيسي لجذوة هذا الاشتعال كائن من القرون الجليدية. وهكذا أخمدت العشوائيات، مؤقتاً، لهباً طافٍ على الرمال المتحرّكة دون التفكير الجاد في معادلاته لتحاشي اشتعاله من جديد.
بالعودة إلى الحديث عن الوحدة.. فما معنى "الوحدة"؟ على المستوى الشخصي لا يمكنني أن أفهم أن شيئاً ما ذو قيمة اعتباريّة ما لم تكن هذه القيمة مختبرة ومعترَفاً بها من قبل المستهدَف، في الدرجة الأولى. وابتناءً على منفعتها المؤكدة سيسعى الكائن البشري إلى تبنيها والدفاع عنها، أو تجاوزها والتخلي عنها، وهو ما يفسّر النسبة المرتفعة للوحدويين في الشمال، والانفصاليين في الجنوب -على الأقل في أماني اليوم والليلة- في حال الوحدة اليمنيّة، كمثال. علينا أن نتنازل، مبدئيّاً، عن التوصيف الديني للموقف من فكرة الوحدة. فلا ملائكة ولا شياطين، هُناك فقط مصلحة لا أكثر، وهذا هو منطق الحراك البشري، الذي أخضع الشريعة نفسها لواقعيّته. لدرجة أنْ كتب الفقيه الطوقي، في السابع الهجري: "... وإذا تعارض النص الديني مع مصالح الناس قُدّمتْ مصالح الناس..". في معرض تعليقه على قاعدة: حيثما تكون مصالح العباد فثم شرع الله. في المسيحية هناك زواج كاثوليكي، وهو لون من الزواج لا فكاك منه لأن العصمة فيه بيد الرب. وفي الديانات السابقة للإسلام، أيضاً، كانت عقوبة المسيء أن يقتل نفسه "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم"(البقرة:54) هذه الأشكال الجبريّة والمغلقة من الفكر والممارسة أسقطها النوع البشري بتحوّلاته المستمرة، حتى أخضع الأخلاق نفسها لقوانين النسبيّة. فلا حتميّة، ولا أنظمة شموليّة، ولا حكايات كُبرى، ولا نهاية للتاريخ، ولا حلول نهائية، ولا قائد ضرورة.. كل هذه الأفكار/ العقائد يرفضها المختبر البشري العارِم، ويثبت على الدوام هشاشتها وقلة حيلتها. هُناك فقط كائن بشري يدب على الأرض بثنائية اللذة والألم. يستوعب هذا الكائن فكرة ما ويتبناها إذا ما أثبت مختبره النفسي والذهني نفعيّتها، أو ينحّيها جانباً حين عكس ذلك هو الأصل. والبشري هو تجريبي، يبني خبراته على التجربة والخطأ، ثم استبعاد الخطأ. وهي قياسات حياتيّة تستنكف منطق "اقتلوا أنفسكم" في حال الخطأ، ولا تطالب باعتماد نجاحاتها الآنية حلولاً نهائية للمشكل البشري، باعتباره متحوّلا دائماً، ومراوغاً بطبيعته.
ربما تشكّلت عقيدة شعبية عامة، في الشطرين، مفادها افتراض أن الوحدة هي حل سحري للمجتمع اليمني المأزوم تاريخيّاً، على كل الصّعُد، من الصحة إلى العسكريّة. وباللجوء إلى خيار الاتّحاد فإن المخططين الشركاء أحاطوا التحوّل إلى الوحدة بشرعيات ثابتة تضبط إيقاعه وتعيد تقييم مساراته. وكان الاتفاق على أن تكون الديموقراطية هي الشرعية الأساسية للوحدة اليمنيّة، تقوم بها الوحدة وتسقط بغيابها، وهو ما نص عليه الدستور اليمني ذاته في مادته الخامسة. هُنا من حقي أن أتساءل: حين تفترق المسارات، بين الوحدة والديموقراطية.. أي المسارين هو الأكثر شرعية إنسانية وأخلاقية وحضارية؟ إن عكس الديموقراطية يعني مجتمع ما قبل الدولة الحديثة بكل غوغائيتها وسديمها. وفي هذه المجتمعات السديمية تتجلّى العمليات الكُبرى، الوحدة مثالاً، زحفاً جغرافيّا وسياسيّاً لأنظمة الحكم المسيطرة، أي مزيداً من السديمية. في حين تقرّر الشرائع الدولية، التي نص الدستور اليمني في مادته السادسة على احترامها بالمجمل، أن من حق الشعوب تقرير مصيرها فيما تراهُ من خيارات أكثر أماناً وحريّة وعدالة. ولست أدري كيف يفهم نظام الحكم في اليمن "الديموقراطية". ولا معنى أن يقف قائد عسكري ضخم أمام رئيس الجمهورية، في احتفال أمني مهيب، ليقول في كلمته "لتذهب الديموقراطية إلى الجحيم إذا كانت ستأتي على حساب الوحدة". فإذا كانت الديموقراطية، ثالوث المؤسساتية، الحقوق/ الحريّات، التبادل السلمي للسلطات، ستذهب إلى الجحيم، فما الذي سيتبقى من فضائل المجتمع لكي يذهب إلى الجنّة؟ من المخيف للغاية أن أفهم من تفاصيل كل الخطابات الرئاسية والأمنية، بشكل أبدي، أن الديموقراطية في وعيهم تعني فقط "ضبط النفس". وهو المعنى الذي تكشفه ممارسات كثيرة، تجاه الخصوم، تتسم بطابع التشفّي والانتقام العنيف بأيادٍ أمنية أو قانونية أو خليط من اليدين، حين يقدّر حراس الديموقراطية أن الظروف أصبحت مواتيّة لتخفيض مستوى ضبط النفس، ومنح الديموقراطية فرصة للاسترخاء.
ما معنى أن يخرج المئات في عدن ومحافظات أخرى بهتافات حادّة من فصيلة "برّه يا استعمار من أرض الأحرار" من وقت لآخر؟ وما علاقة هكذا هتافات حادّة بما بات يعرف بقضية المتقاعدين، أو المسألة الجنوبية برمّتها؟ وهل ستفتح في القريب كشوفات جديدة مماثلة: المسألة الشمالية، العاطلين، سلطات المشائخ الخارجة عن القانون.. إلخ إذا ما استمر النظام يحل مشاكل البلد الداخلية بـ"الجزرة والفقّوس"؟
منذ عام من الآن نشرت وسائل الإعلام المقروءة، بالتحديد: صحيفة الأيام ثم الثوري من خلال مقالة لأبو بكر السقاف، بياناً موقّعا من 281 شخصية جنوبيّة، لم يتم الالتفات إليه من قبل المعنيين بحراسة النسيج اليمني بأي شكل.. يتحدّث البيان عن 200 ألف مواطن فقدوا مصدر دخلهم، 42 ألف قطعة أرض صودرت من عدن وأبين منذ حرب 94م، و20 ألف عسكري طارت أرزاقُهم، ويشير، بالإيماء، إلى حالات من النهب العارم في حضرموت.. كان كل أولئك الضحايا جنوبيين خضعوا لحكاية كبرى اسمها "الوحدة اليمنية" فيما يبدو أن صبرهم عليها قد فاق صبر الفنان المرشدي على "شين طا را يا نون" أيام زماااان. هذا الحديث ليس للتثوير الجماهيري، فليس أسوأ سمعة في الوطن العربي من الثورة. هو فقط مؤخّرة لقياس مقدّمة الصورة. هناك متضرر من فكرة الوحدة بصورتها العنيفة "الدمج الجغرافي، بتعبير أحمد عبيد بن دغر في آخر مقالاته في صحيفة الثوري، قبل أن يتوكّل الله ويشتغل... " الضرر المشار إليه واضح في تفصيلات الشكوى، وفي شكاوى وقصص وحواديت ذائعة الصيت تجاوزت في قسماتها الكوميدية الكامنة والتراجيدية الصريحة حدود الدراما والتخييل. من الأفضل الآن، عند هذه النقطة، أن نكون صرحاء: هُناك متضرر فعلي، ورابح فعلي من الوحدة. أي: ثمة لذة، وألم. وبهدوء أكثر: هناك من يعتقد أن الأخطاء التي رافقت الوحدة تفوقت على حسناتها، وبهذه الصورة تتجلّى فكرة الوحدة لدى هذا الفصيل من "الإنسان اليمني" أكثر كلفة من التشطير ذاته. وكما قلتُ: يحتمي هذا الفصيل اليمني بروايات لا حصر لها عن خرابات الوحدة أو تجاوزات سدنتها المدعومين أفقيّا من أعلى أجهزة الحكم، ولو عن غير قصد. لا غرابة في الأمر، البتّة، فهكذا هي دائماً الحكايات الكُبرى مليئة بالحبكات والشد الدرامي وتنتهي غالباً بمشهد لبطل وحيد، لديه القدرة على التناسل والاستنساخ، يغلق الباب على الجميع، ويقال عندها: أنجزت الدراما بمهارة. وبالعودة إلى النفع والخسارة، سيكون بمقدرونا أن نقرّر: ليست الوحدة فضيلة على الدوام، كما لا ليس الانفصال دنساً وخطيئة في المطلق. هناك فقط رابح وخاسر، سيمجّد الوحدة أناس، وسيلعنها آخرون، انحيازاً للمبدأ ذاته.. ولا فرصة للقمار فالمسألة متعلّقة بالحاد البشري، فرصة الحياة التي لن توفّرها الاحتفالات السنوية ولا استشهادات وزراء الأوقاف بآية "واعتصموا" في كل مرة يعلن فيها سدنة الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة أن تقريرهم السنوي أصبح جاهزاً. إذ لا قداسة لأي معنى غير "منافع البشر". وبالتأكيد، فإن الحديث عن منافع البشر لا يعترف بالعبارات فارعة الطول على شاكلة: العمق الاستراتيجي، نواة الوحدة العربيّة، الرغبة الإلهية... إلخ وإلا جاز لنا اعتبار احتلال السعودية لأركان الاسلام الخمسة، بتعبير عبد الفتاح اسماعيل "نجران وعسير وجيزان ووديعة وشرورة" عملاً ليس مشروعاً وحسب، بل وأخلاقيّا تماما، كونه يأتي انتصارا للأبعاد المطاطيّة ذاتها، العمق والقصد القومي وخدمة القضايا الكُبرى.. وتك تك تك. أنا هُنا لا أبرّر الانفصال ولا أدافع عن الوحدة. إذ كل ما أريد أن أقوله لا يتجاوز قيمة جوهرية محصورة في "منفعة الناس" التي يتحتّم أن تقاس عليها كل القيم والإجراءات. ضد توثين الجغرافيا، وعبادة الأهداف المطلقة، ضد الحديث بلغة النهائي والحتمي والقاطع، ضد فكرة القائد الضرورة والبلد السفينة. أنا مع البهجة البشريّة تحت أي مسمّى. هكذا، أيضاً، يسيل السياق القرآني برشاقته الاستثنائية: "إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم" (النساء:97).
وبعبارة إضافية، أقول للوحدويين، وأنا وجداني وحدويّ في الأساس: "ما هكذا يا سعد تورد الإبلـ". لقد أصبح ضروريّاً الآن إعادة طرح جسد الوحدة على سرير الكشف، ومساءلة الذات بصوت عالٍ: ما الإيجابي الحتمي الذي لم يتم منذ إعلان الوحدة، وليس الذي تم؟ مع مراعاة حقيقة النزوع البشري تجاه المنفعة واللذة، التي هي مقدّسه رقم واحد. وأبعد من ذلك: هل يمكن حصر الأخطاء القاتلة التي أساءت للوحدة كقيمة منذ الإعلان؟ وهل سيتخلى الفردُ عن حصر الفضيلة في شخصه ويسندها إلى خطوطها الجماهيرية الحقيقية؟ وهل يمتلك النظام الجرأة لمحاسبة أمراء حربه الذين أحرقوا شمال اليمن، في صعدة، وها هم الآن يجرّون قدميه لمحارق أخرى؟ من منكم يتذكر عبارة البرلماني إنصاف مايو، قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، في تعليقه على الإجراءات الأمنية المريضة التي قامت بها أجهزة الأمن في عدن: "أقول للكحلاني، إن أبناء عدن ليسوا دراجات نارية لكي تقوم بسحلهم وإهانتهم في الشوارع؟" لماذا هتف المتظاهرون في عدن، منذ أيام: برّه برّه يا كحلان، برّه برّه يا تعبان.. بينما ذرفوا دموعهم على المحافظ الشعيبي، في ساعة المغادرة؟ نظامنا اليمني له قدرة على الاستكبار غير مسبوقة، فهو لن يطرح هذه الأسئلة أمامه بحق، لأنه لا يحب "لي الذراع".. ولا يترك أي اعتبار أو تقدير لرأي الشارع في لون ما من الممارسات أو الشخصيّات.. ثم في لحظة الشدة يبكي على اللبن المسكوب، كما حدث في صعدة، حين اختلط الجيش بالمرتزقة والقتلى.. ثالوثاً لن يرحل عن ذاكرة اليمني المعاصر. بعد كل هذه الفصول، سيصرّ بشراسة على لعب الدور غير المناسب: حماية الوحدة!
< هل قلت في بداية حديثي "مطعم يمني في القاهرة"؟ بالمناسبة، حاليّاً يتسابق اليمنييون على افتتاح مطاعمهم الشعبية في القاهرة بصورة محمومة، ليكرّسوا صورة اليمني في الذاكرة المصرية الحديثة بثنائيته القديمة: المريض، بما يحمله المرض من إشارات حادّة إلى غياب الحد الأدنى من ضمانات الحياة المعقولة.. والشيف " الطبّاخ" وهي الصورة الكاريكاتورية التي تقول بوضوح طاغ: إن مجتمعاً من الطبّاخين لن يكون بمقدروه أن ينافس حضاريّاً (حضاريّا إيه بس، إحنا ملاقين ناكل، أصلاً!) أو أن يصنع تحولات جوهرية على المستوى الوطني. وكذلك المجتمع الذي يصدّر طبّاخين ومرضى، هو مجتمع مخوَّخ، بالتعبير المصري. وهي صورة مطوّرة للتوصيف الإنساني الذي قدّمه الرئيس عبد الناصر في أسوان، 1963 مبرّرا تورّط مصر في حروب اليمن: "كذلك أيها الإخوة فيه ثورة باليمن- فيه 5 مليون يمني حاططهم الإمام في العصور الوسطى. الواحد يقدر في تلات ساعات ينتقل من القرن العشرين للقرن العاشر. نركب طيارة ونروح اليمن. نلاقيه حاططهم في العصور الوسطى. مافيش طريق، مافيش أي حاجة... إلخ" طبقاً لرواية أبو الحجاج حافظ، في كتابه "عودة الأبطالـ"، عن مطابع الشعب، 1968م. ما أشبه البارحة بما قبل البارحة، وببكرة كمان!
طيب، ما دمنا في سيرة المطاعم، فسأغلق مقالي باقتباس من مقالة في صحيفة الوطن الكويتية، بتاريخ 9/7/2006م، للكاتب فؤاد هاشم، وهي مقالة هشة على أية حال لكنها دالة، تعليقاً على وعود الرئيس اليمني لشعبه بالطاقة النووية: "إذا كان اعتماده على العقول اليمنية المهاجرة في ديترويت بولاية ميتشجان. فكلهم هناك قد تخصصوا في بيع اللحمة بعجين والحنّة والشاورما والبهارات، إلا إذا كان المفاعل النووي اليمني سيعمل على الحنّة أو..عصير القات الخارج من أفواه المواطنين والمغتربين". في واقع الأمر فإنه ليس لديّ تعليق يمكن أن أفحمَ به هذا الكاتب الزقوة.. فقط أقول له: ومالها الشاورما، وفيها إيه لو نبيع حناء؟ أليست أفضل من انتظار "غودو" بمستحيلاته الأربعة: النووي، والغول والعنقاء، والخل الوفي!؟
thoyazanMail