أنقذوا رأس الخيواني (2)

أنقذوا رأس الخيواني (2) - أبوبكر السقاف

منذ حرب صعدة الأولى والسلطة/ السلطان، تظهر عزماً على التنكيل بالصحافي الذي يفتح ملفات مقلقة سواء أكانت تتعلق بالتوريث إك بالحرب في صعدة، أو جرائم مشرحة كلية الطب بجامعة صنعاء الجملة مضطربة رغم أنها هكذا في الأصل. حوكم لأنه تابع بدأب ملف الجرائم، فانضمت جامعة صنعاء إلى الدولة رافعة قضيتها معه إلى القضاء، فأنصفه القضاء. وتبين أن سوء الطوية تجاوز الرغبة في التأديب، إلى محاولة اغتياله في السجن على يد مجرم محكوم بالاعدام. وفي هذه الجولة بدأ التعذيب والتنكيل من لحظة الاعتقال العاصفة في غرفة نومه وامتدت يد الجريمة الجبانة إلى الصغيرة هبة (7سنوات) وهذا عدوان يكون مع العدوان على حرمة المنزل جريمة مركبة لا بد من مقاضاة مرتكبيها والآمرين بها.
تراكم السلطة/ السلطان وقائع عدوانها بمحاكمته أمام محكمة أمن الدولة، وهو دعا الأخوة الأعزاء في «هود» إلى الاصرار على عدم إعطائها شرعية في محاكمته. ورغم الاضطراب في صوغ التهم، بالإضافة والحذف، إلا أنها تدور في إطار التهم التي وجهها الرئيس في اجتماع جمعه بقيادات المشترك ونشرتها «الشارع»، فهناك مجلس سري للإمامة، والخيواني على صلة جد وثيقة بخلية إرهابية جعلت الرئيس يصفه بأنه «الأب الروحي» لها، وهي جبة فضفاضة عليه، كما أنها لا تناسبه صورة ومضمونا والسلطة تعرف أن الارهابيين لا يتشكلون في إهاب المجرم فجأة، فهم إما يتخلقون مجرمين في تنظيم عقيدته مبنية على تدمير النفس والخصم، وإما يعدون بعناية داخل اجهزة الأمن الرسمية، بل لم يعرف عن الخيواني منذ مرحلة الدراسة الابتدائية في تعز حتى الانتهاء من الدراسة والتخرج في جامعة صنعاء أي ميل إلى العنف بله الإرهاب.
ويشك في وجاهة هذه التهمة حتى الامريكان رسمياً وشعبياً. وكان آخر تصريح بهذا الشأن ما قاله رئيس لجنة حماية الصحافيين بنيويورك ونشر في الصحف.
إن التهمة الموجهة إليه* الآن مع بقية أعضاء الخلية عقوبتها الإعدام كما كتبت في المرة السابقة. وازددت اقتناعاً بهذا الفهم لسير القضية بعد قراءة تصريحات المحامي المخلص في الدفاع عن الحق/ الحقيقة، خالد الآنسي، وهذه شهادة مهنية يحمل قائلها إرادة خيرة ويعرف المبدأ المشهور للقانونيين الرومان، الذي يقول إن براءة ألف مجرم خير من معاقبة بريء واحد.
وهناك بعد سياسي ثقافي في القضية يزيد مخاوفي. فالظلم الذي يصيب الناس في دولة توتاليتارية (شمولية) لا يتسم بأية دلالة شخصية، فلا شك أن ستالين وهتلر وفرانكو وغيرهم من بناة الدولة الشمولية، لا يعرفون أعداء النظام الذين حكم عليهم بالسجن أو الإعدام أو العمل في معسكرات اعتقال يموتون فيها ببطء كما في «غولاج» ستالين الذي قدم صورته المروعة سولجينستين. ولعل الاستثناء كان في تصفية رفاقه من اعضاء المكتب السياسي وهم من القادة الذين صنعوا الثورة: تروتسكي وبوخارين وكيروف.
تقوم الدولة -الآلة بإبادة الخصوم برتابة وهدوء هما جزء من ترشيد جهاز الدولة البيروقراطي أو ما كان ماكس فيبر يسميه «القفص الحديدي»، والترشيد هنا جزء من عقلانية التحديث، فهذه الدولة وجدت في مجتمعات حديثة من حيث التنظيم الحديث للصناعة والعلم والإدارة، ولذا هي ديكتاتورية منتجة. بينما الدولة التسلطية موجودة في مجتمع ما قبل الرأسمالية، وحتى عندما يكون ملقحاً بالتحديث فإن الدور المقرر والحاسم فيه هو لمكونات ما قبل الرأسمالية والسياسية والثقافية. وهي عندنا ممثلة، رغم الديكور البراني الذي يحاكي الحديث في دولة السلطان، التي يرقى نسبها إلى دولتنا السلطانية القديمة، التي كانت تسمى احياناً «دولة الجند» لغلبة العسكريين فيها لا سيما من غير العرب. والجند اليوم هم الجيش الذي يوصف بالوطني!
السلطة هنا دائماً شخصية، تتصرف وفق المشيئة والإرادة. وكثيراً ما قلب الفقهاء و المؤرخون من أسلافنا العلاقة بين السماء والأرض إذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية الرواية الدينية فبدلاً من الاستدلال بوحدانية الله على وحدانية السلطان الزمني، يستدل بوحدانية السلطان الزمني على وحدانية الله. (انظر إن شئت: آبو عبدالله محمد بن ابراهيم بن جماعة، تحرير الأحكام في تبرير أهل الاسلام، مجلة «إسلاميكا» العدد 6 (1934). وانظر: الأشعري، اللمع، القاهرة، 1955. والماتريدي، التوحيد، بيروت،1970).
هذه السلطة الشخصية ليست حكراً على الشرق أو ديار الاسلام، فملوك وقياصرة الغرب مارسوها بالظفر والناب والشعوذة، فكان منهم في فرنسا من يداوي المرضى بريقه!!
ولكن هذا حاضرنا. وهنا كل جحيم التخلف. ويعاني فيه ومنه بلد عربي يحاول منذ نحو قرنين اقتحام أفق العصر الحديث. وقس على ذلك حالنا.
عندما حوكم الزميل سعد الدين ابراهيم وقضى فترة طويلة في السجن سببت له امراضاً جديدة وضاعفت أمراضه القديمة، لم أجد سبباً مقنعاً للقضية برمتها، فالتقرير السنوي الذي كان ينشره: الملل والنحل والأعراق، رغم اتهامه بأنه يجعل من الأقباط أقلية ويسعر قضيتها، وهو المسلم الذي كان قبل هزيمة 1967 متحمساً للناصرية، فلم يكن ذلك كافياً لفهم القضية. وبالمصادفة عرفت أنه في جلسة مع زملاء «حكيت النكتة» فأضاف تعديلاً إلى نكة معروفة منذ سنوات، وهي إضافة موفقة تناسب الخيال المصري والذائقة الشعبية. ولأن أهل الخير كثيرون عُرف أنه صاحب الإضافة الطريفة والخبيثة معاً. فكانت القشة المشهورة لا سيما بعد أن كتب معارضا التوريث.
ورغم التلاعب الذي مارسه القضاء، إلا أنه ظفر بالبراءة في النهاية ولكن بعد أن نال العقاب المطلوب. وكنت أرجح براءته دون أن أطلع على التفاصيل، وذلك بعد قراءة شهادات نشرتها الصحافة لأساتذة معروفين بالنزاهة والصدق والمستوى العلمي الرفيع أمثال الأستاذ (البروفيسور) النجار وهو من الهيئة الاستشارية لمركز «ابن خلدون»، الذي أسسه سعد الدين.
بعد عودة الإمام أحمد إلى العرش وإعدام الشهيد الثلايا، اشتهر عنه أنه قال إنه لا يريد شيئاً بعد الآن إلا انتظار هذا الولد: اللواء محمد قائد سيف.
وهو الذي ودعته عدن وداعاً يستحقه قبل اسبوع، وكان يتمتع بأفضل جوانب الخلق العسكري.
إن الأمر لم يكن سياسياً محضا في نظر الإمام، بل إهانة شخصية وجهها إليه هذا الشاب الجريء، ولم يكن يتوقعها منه، ورأى في شجاعته تحدياً شخصياً له لم يستطع أن ينظر إليه خارج الصورة التي رسمها تاريخ الإمامة لكل كفار التأويل الخانعين. لم يدرك أن ابن «جبل حديد»، تخرج في الكلية الحربية بالقاهرة ويحمل في روحه طموحاً جديداً وحباً للحرية، وأن اقامة أسرة «البليط» في عدن زودته بثقافة مدنية ومدينية، وأنه و أهله عرفوا مهنا جديدة تربي الشخصية خارج دائرة الرعوية الزراعية.
منذ الجولة الأولى في حرب صعدة لم تعد العلاقة بين النظام والخيواني تدور في إطار حرية الرأي أو المعارضة السياسية، أصبح لها بعد شخصي نما بانتظام في كل مرة يكتب فيها الصحافي مقالاً أو يدلي بتصريح، ونقده الشديد واللاذع لمن يتصور أنه بطل الحرب في المرات الثلاث وسع دائرة العداء الشخصي، فلا الرئيس ولا قائد الجبهة العسكرية وضباطه، من الذين يمكن اتهامهم بأنهم يتمتعون بروح التسامح والقدرة على الجدال أو الحوار، هذا الحوار الذي اصبح (درجة) تغطي كل سوأة في النظام منذ سنوات، ولكن لا يدخل في اطار مفهومه عند السلطة احترام حرية الرأي أو العقيدة.
بقي أن أكرر ما جاء في المقال السابق: لا بد من تضافر الجهود لرفع سقف الدفاع عن حياة الخيواني، أما اذا تجددت الحرب كما تشير نذر كثيرة فإن ارساله إلى المشنقة يكون جزءاً من جنون الحرب. يجب أن لا تقلد هيئات المجتمع المدني: الأحزاب ونتخذ من الاعتكاف في المقرات سنة دائمة وبدعة هدى، بل أقترح أن تجترح بدعة ضلالة اسمها الخروج إلى الشارع. وأعلق آمالي بهذا الشآن على «هود» والشقائق.
13/7/2007
 
* تحية تقدير للأخ العزيز محمد غالب غزوان، الذي رفض أن يكون شاهد زور في قضية الخيواني. إنك يا أخي تثبت أن لكلمة الانسان رنين كبرياء كما قال مرة مكسيم غوركي، وأنك أكبر من شرطك الانساني، الذي كثيراً ما يكون ذريعة لامتهان الانسان فينا، وأن الجريمة في كل صورها وإن طغت لا يمكن أن تنتصر. انتصرت للحق، ولن نخذلك، فلا تخف, أنت أكبر من كل آلة التزوير التي يسمونها دولة.