خواطر آيلة للوجع - أمل الباشا

بصدق ومحبة يعاتبني أصدقائي وصديقاتي لعدم متابعتي الكتابة, رغم أن ما نشر لي لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة إلا قليلاً، ومنذ بداية الألفية. لست صحفية أو كاتبة، إنما نزق للكتابة آني ووليد اللحظة لا أكثر. ولأني كذلك أحتاج إلى مزاج استثنائى خارق أغادر به حالة الحياد التي أعيشها منذ فترة، كجرع كثيفة من الفرح أو الحزن، العقل أو الجنون، الحب أو الكراهية، الخوف أو أية إنفعالات هي تحفيزية لي كي أخط بعض السطور. أما وأنا عالقة في المنطقة الرمادية، فلا جدوى من المحاولة.
 كرهت دوماً أن أقبع في المنتصف. وانسحب هذا على تفاصيل كثيرة في حياتي ومنذ وقت مبكر, إما تفوق في الدراسة وإما لا تعليم، إما صداقات حميمة وإما انزواء، حب جارف أو لا خفقات, عمل حد الإنهاك أو كسل تام, مواجهة كاملة ورفض لكل الزيف أو التواري في محميات حريم البشوات.
 لم أستعذب يوماً أن أكون نصف أنثى, نصف ناجحة, نصف زوجة, نصف صديقة أو نصف عاقلة أو نصف مرحة.
 رتب كل ذلك التزامات وضغوطا مضاعفة كي لا أجد نفسي متقوقعة في نقطة المنتصف، وهي دون شك منطقة مريحة، فهي توفر الهدوء, الأمان، وحسن الخاتمة.
 أبحث الآن عمَّن أوهمني باكراً أن التميز سر السعادة والنجاح كي أصب عليه وابل لعناتي وجم غضبي.
 آخر مقال كتبته منذ أكثر من عامين. أقف الآن مع نفسي أسألها, دحضاً ما ادعيته سابقاً: هل كل ما حدث خلال هذه الفترة على المستوى الشخصي والعام لم يفجرني فرحاً أو حزناً أو غضباً، بحيث لم يكن كافياً لإخراجي من حالة الحياد؟ أم الافتقاد للدهشة، البلادة، التقدم في العمر، قرف ويأس من جدوى الكتابة، وأشياء أخرى.
 لا أدرى لماذا أثرثر الآن وأتسول حججاً تبدو غير مقنعة لي أو لأصدقائي وصديقاتي.
الروح مثقلة بذاكرة تفيض بكل ما هو إنساني, جميل وقبيح، مبهج وحزين، أسئلة تهرش رأسي وتؤلمني. أتساءل: لماذا لم أعد أسمع أغنية حليم داخل أذني وأدندن معها "وحياة قلبي وأفراحه.. وهناه في مساه وصباحه..!"، كما كان يحدث لي دوماً أول ما تطأ قدماي مطار القاهرة، المدينة التي أدين لها بالكثير!؟
 لماذا صرت أعزف عن فتح حوار مع السائق حول الطقس, أحوال "المحروسة"، "أم الدنيا" وسماع آخر نكتة؟
 لماذا فقدت شغفي بالتسكع في الأحياء القديمة لمدن أزورها لأول مرة!؟ ولا أكترث لزيارة المتاحف, الآثار, المساجد وكنائس القرون الوسطى!؟ لماذا لم أعد أهرول إلى صالات الفنون التشكيلية لأقف حد الإنهاك ساعات مشدوهة أمام إبداع يكشف روعة الحياة وعظمتها!؟ رغم جهلي بتفاصيل هذا الفن، لماذا أتعلل بأعذار واهية كي لا أزور المكتبات لمعرفة آخر الإصدارات واقتناء الكتب الأكثر مبيعاً إلا بطلب من أحبتي؟
لماذا عندما أتصفح الجرائد لا أقلبها سريعاً كعادتي بحثاً عن صفحة إعلانات دور السينما والمسارح أو الفعاليات السياسية والثقافية التي تكتظ بها عواصم اليوم، إلا صنعاء؟
لماذا لا أتواصل مع صديقات جمعتني بهن أيام لهو ولعب وجد وحب...؟
لماذا عند السفر أكثر من قراءة تفاصيل العودة المدونة على تذكرة السفر استعجالاً بالارتماء في أحضان صنعاء، رغم بؤسها، وإلى دفء منزلي وغرفة نومي، رغم ضجيج مكبرات الصوت الآتية بعنف من خلف النافذة، كأنها مثبتة بها، حاملة ما يشبه صراخ متألم، "حاملـ" في حال مخاض، استغاثة مفزوع، مسيرة هائجة أو كأنها ساعات يوم الحشر، ودون تدخل أو رقابة من أحد لوقف الإزعاج والأذى المتواصل رغم شكاوى سكان الحي؟ هذا لا يوجد في عواصم الدنيا، إلا في صنعاء.
من الذي أحالني وأحال الكثيرين إلى كائنات لا محتفية بالحياة أو متشبثة بها!؟
من الذي يريد كسرنا، سرق طفولة أجيال قادمة، ووأد فرحة أحلام لم يشتد عودها بعد؟
من الذي يريد أن نتحول إلى زوائد دودية, طحالب عفنة، لا ننفعل أو نتفاعل مع معطيات الحياة بحلوها على قلته ومرها على كثرته؟
من الذي يحاول ببلاهة أن يخنق أصواتا حرة في زمن الفضاء المعولم، أو كسر أقلام الرصاص النارية والتي تعجز نفسها عن حرق أصابع حامليها، لكنها، الأقلام ذاتها، بقوتها وبصدقها وبجرأتها، قادرة على أن تفقأ عين الشمس، إن تواطأت الشمس بحجب أشعتها عن قبح أو جمال الحقيقة، أصواتا وأحرفا مستعصية على التدجين، قابلة للتحدي بشرف، تحرسها وتجلها عيون نبلاء ونبيلات اليمن، قادرة باحتراف مهني ووطنية عالية أن تحطم سقف الحرية الزجاجي المتخيل في رؤوس مجوفة لمأزومين ولمنتفعين ولمن سار على دروبهم، بئس الدروب!؟
 هل الوطنية والانتماء مقتصرة فقط على المنتمين لجهازي الأمن الوطني والقومي، أو الكتبة الكذبة ومهرجي المنشورات الصفراء أو الدافعين لها؟ وهل ما عدا هؤلاء، من مواطني ومواطنات اليمن، ليسوا سوى مجرد خونة ومرتزقة وعملاء متربصين ومرجفين ومتآمرين على الوطن؟
 من الذي جعلنا والمطحونين من البسطاء نقول بعد تنفس كل صباح: "يا إلهي، هذا يوم آخر، كيف سننهيه أو ينهينا؟".
 أنا التي لا أخاف زيارة المقابر, إلا تلك التي ينام فيها أحبتي، إنسانياً لم أحتمل مطلقاً فكرة أن أكون بجوارهم ويعوقني عن ضمهم تراب وإسمنت يعلوهم، أفكرالآن ولأول مرة بزيارة قبر زوجي وطفلتي منذ أن غادرنا بريق عيونهم دفعةً واحدةً لأكثر من تسع سنوات. لن أضع زهور القرنفل المفضلة لديّ على قبريهما، فلا قرنفل هنا، لكني سأنثر الرياحين, وسأروي لأبي فراس حكايا كان يحب ويحسن الإصغاء إليها. سأحرص على ألا أؤذيه بأخبار موجعة عن بلدنا، عشقنا الأوحد، قطعاً سيحزنه سماع أن "اليمن السعيد" (غداً)... يهرول منذ سنوات نحو الخراب، بل بخبث سألهيه بأخبار العائلة والأصدقاء فقط. أعرف أن ذلك لن يكون كافياً أو مرضياً له، لكني سأواصل الحديث وأقول له: "إن الآن فراس قد كبر وصار أطول منك، ولؤي أصبح الآن أكثر امتلاءً منكـ". أيضاً سأمازحه وأقول له: "إني اليوم صرت أكبر منكـ".
 معاً سنضحك كثيراً، ولوحدي... سأبكي... طويلاً.