صنعاء 19C امطار خفيفة

الانفصال بوصفه سوء قراءة

في الخطاب الانفصالي شيء يشبه الوقوف أمام المرآة مع الإصرار على مخاطبة الصورة القديمة، لا لأنها الأصدق بل لأنها الأريح. الحجة المركزية التي يُشيَّد عليها هذا الخطاب تبدو للوهلة الأولى صلبة. الجنوب كان دولة مستقلة قبل 1990، حقيقة تاريخية لا يجادل فيها أحد. لكن الإشكال لا يبدأ من هنا بل من القفزة البهلوانية التي تليها، حين يُراد لتلك الحقيقة المنتهية أن تعمل كصك قانوني صالح للاستخدام السياسي بعد ثلاثة عقود من إلغائها بإرادة رسمية مكتملة الأركان.

الجنوب لم يُحتل عام 1990 ولم يُضم قسراً ولم يُبتلع في لحظة غفلة. ما جرى كان وحدة اندماجية كاملة أعلنت فيها دولتان سياديتان وبمحاضر رسمية حلَّ نفسيهما دون رجعة لتنشأ دولة جديدة باسم الجمهورية اليمنية. هذه ليست قراءة وحدوية متحمسة بل توصيف قانوني بارد، لا يعرف العاطفة ولا يعترف بالحنين. الدولة التي تحل نفسها لا تُعلّق وجودها في المستودع بانتظار سوء الطقس السياسي.

الخطاب الانفصالي لا يعاني من ضعف في الذاكرة بل من فائض انتقائية. يتحدث عن "استعادة دولة"، كأن الدول تُستعاد كما تُستعاد الملفات من الأرشيف، متجاهلاً أن القانون الدولي لا يعرف مفهوم "الدولة المؤجلة" أو "السيادة القابلة للاسترجاع". الدولة إما قائمة أو منقضية، وما انتهى بإرادة سيادية لا يعود بخطاب احتجاجي مهما كان صاخباً.

المظلومية، وهي حقيقية في كثير من جوانبها، تُستدعى لتؤدي وظيفة لا تستطيعها قانوناً. فالقانون الدولي لا يكافئ المظلوم بدولة ولا يعاقب الفاشل بالتفكيك تلقائياً. المظالم تُنتج مطالب سياسية، إصلاح، حكم ذاتي، فيدرالية، أو حتى مسار تقرير مصير جديد بشروطه المعروفة. لكنها لا تُعيد عقارب الساعة إلى ما قبل 1990، وكأن التاريخ زر "تراجع" يمكن الضغط عليه عند اشتداد الخيبة.

هكذا يقف الخطاب الانفصالي في منطقة رمادية، ليس قادراً على إنكار الوحدة قانونياً، ولا راغباً في خوض معركة سياسية حديثة بشروطها الواقعية. فيلجأ إلى ماضٍ مُلغى، ويطالبه بأن يقوم بوظائف الحاضر، ثم يغضب حين لا يستجيب. وكأن الحاضر بكل ثقله القانوني واعترافه الدولي، أقل شأناً من ذكرى دولة أُغلقت ملفاتها بإمضاء أصحابها.

التناقض الجوهري لا يكمن في الرغبة بالانفصال، فهذه رغبة سياسية قابلة للنقاش، بل في محاولة تسويقها كاستحقاق قانوني جاهز، بينما أدوات القانون ذاتها تقول العكس. وما لم يُحسم هذا التناقض، سيظل الخطاب الانفصالي عالقاً بين دولة لم تعد موجودة، وواقع لا يريد الاعتراف به، يفاوض الماضي ويتجاهل الحاضر، ويؤجل مواجهة الحقيقة الأصعب بأن صناعة المستقبل تتطلب التعامل مع التاريخ والقانون بصدق لا بالتحايل عليهما معاً.

الكلمات الدلالية