السفينة… إلى أين؟
سؤال اللحظة:
إلى أين تمضي سفينة نوح اليمنية بحملها الثقيل؟
وأيُّ رياحٍ متعددة الأوجه والاتجاهات تتلاطمها، وتحدد مساراتها، ليس وفق هوى ربانٍ متهالك، كما أنه ليس هوى بحارة أنهكتهم ملذات السفر الطويل؟
السفينة باتت تعاني من ثقوبٍ يصعب إعادة ترميمها، فقد تكاثر الربابنة وتخاصم البحارة، حتى شارفوا على استلال السيوف استعدادًا للضربة القاضية.
الصورة شديدة التعقيد؛ معتمة، غائمة، عائمة وسط أمواج هادرة، ومجاديف بعضها تشقق، لا يستطيع دفع السفينة نحو اتجاهات تتعارض بالمطلق مع هيكلها وهندستها ونظام بنائها، لأنها باتت سفينة عرجاء شبه غارقة.
بحارتها يتحفزون؛ كلٌّ يريد اقتطاع ما يراه صيده الثمين، يعتقد أنه أحق به من غيره، وفرق الإنقاذ التي يُفترض الاعتماد عليها…
باتت السفينة على حافة الشواطئ، تنتظر رسائل تأتي من خارج البحر، من أرصفة بعيدة الأبعاد، تعيد ليس فقط رسم البحر الذي تطفو عليه سفينتنا العائمة، بل يعيدون هم أنفسهم رسم المصير.
ينتظرون ربابنة البحار العالية ومحيطاتها، ممن يعيدون رسم الخرائط بمقاييس ريختر. فلا هم حلّوا، ولا هم ربطوا، إذ إن البحار، ومنها بحرنا المضطرب، بعد اقتتال الإخوة في الوطن: هابيل وقابيل، باتت قاب قوسين أو أدنى من الغرق في بحر عميق، سيتم لاحقًا البحث عن أجزائه المتناثرة.
يعاد سبك تلك الأجزاء على يد "سبّاكين" عُهد إليهم إعادة تدوير الشظايا، لتظل تحت إمرة سبّاك خبير بقضايا التفتيت والتشبيك، وإعادة رتق الأجزاء بما يتماشى ويلبي مواصفات وقراءات وُضعت منذ أمد بعيد، ورافقت مسيرة الحرب المدمرة التي دمّرت بقايا وطن كنا نسكنه، ثم أنهكت بقايا إنسان بات على مفترق طرق.
مرحلة الحرب ألقت بظلالها الكئيبة على بلادنا طيلة سنوات تجاوزت العقدين، كابوسًا خلّف بقايا وطن، ووظّف بدل كيان الدولة كيانات مفتعلة، جوهرها غادر مفهوم الدولة والمواطنة، لواقع فراغ مضطرب سياسيًا، متصدع اجتماعيًا، فاشل اقتصاديًا.
وما زُرع عمدًا وبوعي، كان هدفه الوصول إلى هذه اللحظة التي نرى فيها سفينة نوح اليمنية تترنح، على وشك الغرق.
نرى هابيل وقابيل يتواجهان بعيدًا عن كل الثوابت والمرجعيات التي تحركت بها سفينتهم المحملة بإرثٍ من عدم الثقة، بل ميراث قوامه التربص والانتظار لدنو فرصة سانحة يقتنصها أحدهم، ليلقي بأخيه في يمٍّ عميق.
والخطر الأخطر في الأمر كله، معضلة ـ أو لنقل حيلة وحبكة ـ أن الرعاة الأساسيين الذين أشرفوا على هيكلة السفينة وتجهيزها، كان كلٌّ منهم، في الخفاء، يدير مجاديف المركب وفق اتجاه الرياح التي يراها مناسبة للوصول إلى شاطئه، لا إلى شاطئ الوطن المتعب المنهك.
ربابنة السفينة محاصرون بين قراءات لا يتلونها هم، بل يتلوها الوكيل، ويقرؤها حسب اتجاه الريح.
كثيرون هم وكلاء البحر الذين ينتظرون غرق السفينة، موزعون بين تصادم المصالح حينًا، وتفاهمات تكون غالبًا على حساب السفينة الآيلة للغرق.
وأخوة يوسف، بصراعاتهم، يخلقون المبررات لكثيرين يدّعون محاولة إصلاح العطب، وهم في الأساس أسهموا في وجوده بجسد السفينة منذ أن أبحرت وهي تغرق، ولم تعرف سبيلًا لبر الأمان، إما لعطب في السفينة ذاتها، أو لبلادة بحارتها، إن لم يكن الحليف والراعي الدولي، الذي يبحر معها وحواسه منشغلة بأمور أخرى غير سفينتنا المرهقة.
الآن، ها نحن كشعب ووطن، نغادر البحر المضطرب، ونقف على أرض تشتعل من تحتها ومن فوقها النيران. أجواء التمزيق والإحراق تتمدد لتطال كل الوثائق والمرجعيات التي كونت شرعية معترفًا بها دوليًا؛ شرعية بثمانية قرون متناطحة، وقرن تاسع يلاعب الرياح وفق قراءاته الخاصة وقراءة وكيله: إيران.
إلى جانب لجنة رباعية لم تكن أكثر من "ترزي"، أو كما يقال "مفصلاتي"، حسب المصالح الجيوسياسية لهذا الطرف أو ذاك، وأمم متحدة يفترض أنها الضامن الدولي، لحماية المرجعيات السياسية التي تصون وتحافظ على سفينة الوطن وسيادتها من الغرق الوشيك.
فماذا تبقى إذًا لنقوله كمخرج لبلادنا وسفينتها من الغرق؟
نقول ما يلي:
أولًا: إن استخدام قوة الأمر الواقع لا يشكل إطارًا للحل، بل أسلوب ابتزاز، ونأمل أن يكون ضغطًا للوصول إلى شاطئ الأمان.
ثانيًا: ما تم بناؤه بالتوافق والشراكة لا يُحل إلا بالتوافق الوطني والشراكة الوطنية.
ثالثًا: لا تُفرض الوحدة بالقوة، ولا تُلغى بالقوة.
رابعًا: تظل حماية سفينتنا من الغرق مسؤولية الشرعية الوطنية المعترف بها دوليًا، وأي خلل يطالها يفترض سرعة علاجه، بما يعزز مكانتها، دون الإخلال بالمصالح العليا للجمهورية اليمنية بكل مكوناتها، ودون ابتزاز.
خامسًا: لم يعد مجديًا التعامل مع القضية الجنوبية بعيدًا عن جوهرها، المفضي إلى حل يجنب بلادنا وشعبنا المزيد من الدماء والدمار.
ومن مداخل الحل:
معالجة القضية وفق مخرجات الحوار الوطني الشامل، قبل العبث بها.
أو الدعوة إلى مؤتمر حوار وطني شامل يقبل به الجنوب، على أن يكون جامعًا، وتشارك فيه كل الأطياف اليمنية، بعيدًا عن التصنيف والاستبعاد المسبق، مع التقيد الصارم بكل المرجعيات الوطنية، بما فيها اتفاق الرياض.
استبعاد الحرب تحت أي ذريعة كوسيلة لتحقيق هذا الهدف المستحق.
أخيرًا:
تتطلب المصلحة الوطنية العليا لليمن، أرضًا وشعبًا ومستقبلًا، رسم وتبني استراتيجية وطنية تقوم على بناء الشراكات الشعبية داخل الوطن أولًا، ثم بناء علاقات حسن جوار ومنافع متبادلة مع الأشقاء في مجلس التعاون، على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وبما يحفظ أمن واستقلال ومصالح الجميع.
وهذا يعني ـ مع كل التقدير للدعم الأخوي ـ ضرورة إعادة تقييم التجربة السابقة، وما خلفته الحرب من سلبيات، وصولًا إلى أفضل صيغ التكامل والتعاون والعمل المشترك، حتى تخرج بلادنا من دوامة الاستقطابات بين أطراف تحكمها مصالح متعارضة، مع التأكيد على استبعاد أي تدخل خارجي، إيرانيًا كان أو غيره.
والله الموفق.