رائدات في ظروف غير مواتية 14: الرعاية الصحية في مشروع مستقل (1987–1993)
تتناول المؤلفة في هذا القسم مرحلة تحول المشروع الهولندي اليمني إلى كيان مستقل يركز حصراً على الرعاية الصحية، حيث تم التركيز على بناء نظام متكامل للرعاية الصحية الأولية بدلاً من مجرد تجهيز البنية التحتية. ويبرز هذا الجزء توسع الأنشطة لتشمل حياً جديداً وتدريب دفعة ثانية من المرشدات، والأهم من ذلك، يوضح كيف أدت أزمة الخليج وما تبعها من إجلاء للخبراء الأجانب إلى نتيجة غير متوقعة، حيث مكّنت الكادر اليمني، وخصوصاً المرشدات، من تولي مسؤوليات إدارية وقيادية لأول مرة.
هذا الكتاب
4.3 الرعاية الصحية في مشروع مستقل (1987–1993)
إضافة إلى فصل المشروعين تمخضت عن بعثة التقييم نتيجة هامة أخرى وهي تكليف فريتس موللر، أحد أعضاء فريق التقييم، في المساعدة في إعادة صياغة وثيقة المشروع على أساس تقرير بعثة التقييم. عمل فريتس موللر طبيبا في البيرو في أوائل السبعينيات ولديه خبرة طويلة في الرعاية الصحية الأولية في بلدان أمريكا اللاتينية. منذ عودته لهولندا عمل مستشارا مستقلا لمشاريع الرعاية الصحية في مختلف أنحاء العالم.
كان شديد الحرص وعميق الإيمان ببرامج الرعاية الصحية المجتمعية والتنمية التي تعتمد على مشاركة السكان في منطقة المشروع. زار موللر اليمن لأول مرة في أوائل عام 1986 كعضو في فريق التقييم لمشروع الخدمات الصحية بمحافظة ذمار. وقد دعاه كلاس ويت الذي كان هناك أثناء عمل الفريق إلى مرافقته في زيارة للحديدة. كان كلاس ويت لازال على قناعته بضرورة إنشاء مشروع للرعاية الصحية الأولية الحضرية لكنه كان يعتقد أن هذا الاتجاه لا يحظى بتأييد واسع في إدارة التعاون التنموي الدولي الهولندي التي كانت تضع التنمية الريفية في مقدمة أولوياتها. لذلك طلب من موللر المساعدة في فصل مكوني المشروع مما يوفر الفرصة لإقامة مشروع متكامل لتنمية الحضرية تدريجيا من خلال مكون الرعاية الصحية. وقد اعتبر تقديم خدمات الرعاية الصحية في المراكز الصحية ونشر رسالة التوعية الصحية عبر المرشدات وسيلة للتعرف على المناطق العشوائية وسكانها مما يوفر فرصا وإمكانيات لأنشطة تنموية أخرى.
كان فريتس موللر من أفضل الخبراء معرفة وخبرة بمشروعات الرعاية الصحية الأولية[103] لذلك طلبت منه إدارة التعاون التنموي الدولي الهولندي أن يعمل مستشارا خارجيا دائما لها لتقديم المشورة والنصح بانتظام حول سير المشروع. وهكذا وبالرغم من انه لم يكن مقيما بالحديدة بصفة دائمة فقد أصبح من الشخصيات الرئيسية في المشروع.
تم تمديد عقد مدير المشروع الهولندي وممرضة الصحة العامة وتم توظيف قابلة هولندية جديدة لكن لم يتم تعيين بديل للباحث الأنثروبولوجي وتقرر عوضا عن ذلك الاستعانة بمستشارين ذوي خبرة في البحوث التطبيقية بعقود قصيرة المدى ويفضل أن يكونوا متخصصين في الانثروبولوجيا. وخصصت مكاتب للمشروع في مقر مكتب الصحة في الحديدة حيث كان يعمل كارل يان روير بمساعدة مترجم يمني فيما خصصت مكاتب لثيرا دي هاس وفاطمة سالم والقابلة الجديدة في مركز الغليل الصحي. كان قد تم في وقت سابق تعيين سائق لنقل المرشدات من بيوتهن للعمل كما عينت عاملة نظافة في المركز الصحي.
اقتصرت المرحلة الأولى من المشروع على تجهيز البنيات الأساسية لمشروع الرعاية الصحية الأولية تقريبا وقد قام كارل يان روير بعمل ممتاز في التفاوض مع د. عبد الله حامد الذي تمتع بعلاقة طيبة معه وتمكن من إقناعه بأهمية خدمات الصحة الوقائية. وتم الحصول على مركز صحي وصيانته وتجهيزه وبدا مركز حي الغليل في تقديم خدمات صحة الأمومة والطفولة وبدا تدريب المرشدات في نفس الوقت وتدريجيا تحول المزيد من مسؤوليات الإشراف على المرشدات إلى ثيرا دي هاس التي كانت تساعدها المشرفة اليمنية فاطمة سالم وبدأت القابلات بنجاح في تأسيس خدمات الرعاية الصحية للأمهات قبل وبعد الولادة في المركز وفي الحيّ. وبالرغم من الأهمية المركزية لهذه الأنشطة في أي برنامج للرعاية الصحية الأولية إلا أنها لم تبن على أساس جيد من الأفكار والمفاهيم حول الرعاية الصحية الأولية. في المرحلة الثانية من المشروع ركز الفريق على إنشاء نظام للرعاية الصحية الأولية ولعب فريتس موللر دورا هاما في تقديم المشورة حول كيفية إنجاز ذلك الهدف. وتضمنت وثيقة المشروع لعام 1987 لأول مرة إشارة مفصلة لاستراتيجية الرعاية الصحية الأولية التي أقرتها منظمة الدولية.
"إنها استراتيجية لتحسين فرص التوزيع العادل للرعاية الصحية، تهتم بالرعاية الصحية الأساسية التي يتم صنعها وتوفيرها بالمشاركة الكاملة للسكان وإتاحتها لهم جميعا وليس فقط لمجموعة مختارة محدودة." (مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة 1978:8)"
تبنى المشروع المبادئ الأساسية للرعاية الصحية الأولية الحضرية التي تم تطبيقها في مشاريع الرعاية الصحية الأولية في كل من الأكوادور والفليبين: تم تقسم أحياء السكن العشوائي إلى قطاعات أصغر وتم تدريب مرشدة أو أكثر لكل قطاع مع إعطاء الأولوية للقطاعات الأكثر حرمانا وارتكز عمل المرشدات على الزيارات المنزلية وإنشاء نظام معلومات يمّكن العاملين من التعرف على المجموعات التي تواجه مخاطر أكبر وبذل عناية أكبر للمصابين بأمراض مزمنة" (مصدر سابق). وتقرر أن تكون صحة الطفولة والأمومة هي محور مشروع الحديدة لتدريب وتوظيف نساء في مجال الرعاية الصحية الأولية وتأسيس نظام للزيارات المنزلية وطريقة لتقدير المخاطر[104]، وضع نظام للمعلومات وإدماج القابلات التقليديات (الجدات)، التعاون مع المنظمات الاجتماعية خارج المركز الصحي وإجراء بحوث على نطاق محدود (مصدر سابق 13).
وبالرغم من أن استمرار مشاركة الخبراء الأجانب في تنفيذ أنشطة المشروع اعتبرت ضرورية فقد تم الاتفاق على أن يقوم الخبراء الأجانب بتسليم مسؤولياتهم تدريجيا لنظرائهم اليمنيين وعلى سبيل المثال فقد أصبح للمرشدات دور أكبر في تقديم خدمات رعاية صحة الطفولة والأمومة في المركز الصحي.
كان توسيع المشروع لتغطية حي المغتربين في الأطراف الشمالية لمدينة الحديدة واحدا من أهم الأنشطة في المرحلة الثانية من المشروع لكن ست مرشدات فقط تبقين من التسع اللواتي تم تدريبهن في الدورة التدريبية الأولى إذ أن ثلاث منهن استقلن عقب إتمام التدريب مباشرة لأنهن تزوجن[105]، وكانت المرشدات الست الباقيات يقضين معظم وقتهن في المركز الصحي حيث كانت فاطمة سالم وثيرا دي هاس يقمن بتدريبهن. كان عددهن قليلا ولا يسمح بتنظيم برنامج زيارات منزلية دوري كما أن الأنشطة التي يجب أن تنفذ أثناء الزيارات المنزلية مثل تحديد الأفراد والأسرة المعرضة للمخاطر والإرشاد الصحي المنتظم لم تكن قد بدأت بشكل جدي بعد. وكان من الضروري بدء دورة تدريبية ثانية للمرشدات ولذلك تقرر تأجيل افتتاح المركز الصحي حتى تدريب دفعة ثانية من المرشدات.
بالإضافة إلى الحصول على مركز صحي ثان وتجهيزه واختيار وتدريب دفعة ثانية من المرشدات، كان فريق المشروع مهتما بجمع مزيد من المعلومات حول سكان حي المغتربين واحتياجاتهم. في صيف 1978 أجرى ما أسمي بـ "المسح التقييمي السريعA rapid appraisal [106]" في منطقة المشروع الجديدة تحت إشراف أنثروبولوجي أمريكي. شاركت فاطمة سالم في هذا المسح التقييمي السريع كمنسقة ومدربة ومشرفة على المقابلات.
أجريت المقابلات التي جرت ضمن بحث التقييم العاجل بواسطة نساء شابات من الغليل والمغتربين كن راغبات في الحصول على عمل مأجور أثناء عطلتهن وصدف أن بعضهن رغبن أيضا في تلقى التدريب كمرشدات. بدأ تدريب الدفعة الثانية بعد ما يقارب العامين من انتهاء الدورة التدريبية الأولى في سبتمبر 1988 بسبب المشكلات الإدارية. بدأت الدورة بعشرين متدربة وتخرجت منهن أحد عشرة في سبتمبر 1989[107]. كانت الدورة التدريبية الثانية أكثر انسجاما مع أفكار وزارة الصحة العامة حول تدريب المرشدات حيث تقدمت الوزارة بأفكار أكثر وضوحا حول الوصف الوظيفي للمرشدات[108].
في عام 1989 جاءت بعثة لتقييم المرحلة الأولى الرسمية من مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة. وكان أهم ما توصلت هذه البعثة هو انه وبالرغم من أن خدمات صحة الطفولة والأمومة التي تقدم في مركز الغليل الصحي قد حققت نسبة تغطية عالية لسكان الحيّ إلا أن الحاجة مازالت قائمة لإنشاء نظام متطور للرعاية الصحية الأولية (مصدر سابق 109).
لم تنفذ الزيارات المنزلية بطريقة منتظمة كما أن خطة تقدير المخاطر لم تنفذ بالإضافة إلى محدودية الاندماج في مكتب الصحة بالمحافظة وقلة التعاون مع القطاعات الأخرى والافتقار إلى المشاركة المجتمعية. كما شدد تقرير التقييم على ضرورة اختيار المرشدات بواسطة المجتمع المحلي ومن بين سكان الحيّ. أصبح تنفيذ هذه التوصيات مهمة السيد بول فيلن الذي أصبح مديرا للمشروع بدلا عن كارل يان روير عام 1989. كان بول فيلن طبيبا شابا لديه خبرة طيبة في أعمال الإغاثة الطبية حيث عمل في أنجولا والسودان وموزمبيق تحول تدريجيا للاهتمام بالرعاية الصحية الحضرية.
بينما أنفق كارل يان روير معظم وقته في تجهيز البنيات الأساسية لخدمات الصحة الوقائية في المركزين والتفاوض مع مدير عام الصحة حولهما كان على بول فيلن أن يركز على تأسيس نظام للرعاية الصحية الأولية. وكان ذلك يعني تصميم نظام للزيارات المنزلية للمرشدات وتطوير نظام للمعلومات الصحية يمكن الاعتماد عليه لمراقبة وتقييم نتائج الطريقة المتتبعة.
تزامن وصول بول فيلن مع تعيين حامد حسن، أحد أقرباء عبد الله احمد، نظيرا يمنيا ومنسقاً لمشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة. كان حامد شابا بلا خبرة كطبيب حيث كان عائدا لتوه من روسيا حيث أنهى دراسته في الطب كما أن الرعاية الصحية الأولية كان حقلا جديدا تماما بالنسبة له. كان بول فيلن يعتقد أن على حامد كنظير يمني أن يتولى مسؤولية الاتصال بوزارة الصحة العامة اليمنية لذلك فقد كان فيلن يمضي معظم وقته في المركز الصحي ومع المرشدات لتطوير نظام الزيارات المنزلية المعتمد على تقسيم المنطقة إلى قطاعات وتصميم نظام معلومات صحية يكون بموجبة لكل أسرة في المنطقة بطاقة صحية " لقد ركزت جهدي على الوضع المحلي والعمل الميداني وتطوير نظام للرعاية الصحية الأولية يمكن تطبيقه محليا وإعادة تطبيقه في أي مكان آخر في اليمن"[109]
كان نظام الرعاية الصحية الأولية الحضرية في الحديدة متطابقا مع المبادئ الأساسية المذكورة في وثيقة المشروع (مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة 1987). تم رسم خرائط للأحياء وتقسيمها إلى مناطق تضمن كل منها عدة أقسام تشمل كل منها عدة مربعات وتم ترقيم كل المنازل. وزعت المرشدات إلى فرق يتكون كل منها من مرشدتين وتولى كل فريق المسؤولية عن قسم من المنطقة وكان على المرشدات أن ينفقن نصف وقتهن في الزيارات المنزلية التي يلتقين خلالها بالأمهات ويقدمن لهن إرشادات وتوعية صحية حول النظافة الشخصية، التغذية، والأطفال وما إلى ذلك.
وقد قمن بزيارات منزلية منتظمة لكل الأسر التي تعيش في المنطقة[110]. كما كن يؤدين زيارات منزلية خاصة للأسر التي تواجه مخاطر بناء على معايير المخاطر التي ذكرت سابقاً. وتقضي المرشدات النصف الآخر من وقتهن في المركز الصحي في وزن وتطعيم الأطفال الأقل من خمس سنوات وتقديم الإرشادات الصحية للأمهات. كان تقسيم المناطق إلى أقسام ومربعات ضرورياً أيضاً لما كان يسمى بـ "نظام المعلومات الصحية" الذي كان يجمع ويدون به المعلومات الأساسية حول سكان المنطقة وخاصة أوضاعهم الصحية ويستخدم أيضاً لتقييم أنشطة المشروع والوضع الصحي في المنطقة من وقت لآخر[111]. عندما افتتح مركز المغتربين الصحي عام 1989 تم تطبيق نفس نظام الزيارات المنزلية وجمع المعلومات الصحية في حي المغتربين. تم تقسيم المرشدات بين المركزين الصحيين وتولت ثيرا دي هاس الإشراف على مركز الغليل فيما تولت فاطمة سالم الإشراف على مركز المغتربين.
بالرغم من أنه لم يكن هنالك أخصائي أنثروبولوجي متفرغ في فريق المشروع فقد كانت هنالك حاجة لإجراء البحوث التطبيقية لتوجيه أنشطة المشروع وقياس آثار هذه الأنشطة. في الفترة من عام 1988 إلى عام 1990 قامت أنثروبولوجية هولندية مختصة في العالم العربي بثلاث زيارات قصيرة المدى لليمن لتقديم استشارات لمشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة يمكن اعتبار هذه الزيارات استجابة للمقاربة الجديدة المسماة "المرأة في التنمية" والتي اكتسبت أهمية كبيرة في الثمانينيات. أصبحت المعلومات النوعية عن حياة واحتياجات المرأة مطلوبة كما أوليت أهمية كبيرة لتعليم المرأة ودورها الاقتصادي في هذه الزيارات. ركزت الدراسة الأولى التي أجريت عام 1988 على الحيّاة اليومية في حي الغليل وشبكات اتصال المرأة وفرص وإمكانيات التغيير. وكان من أهم ما توصلت إليه هذه الرسالة أن النساء أبدين رغبة قوية في التعلم، بعضهن كن يرغبن في تعلم القراءة والكتابة والبعض الآخر كن راغبات في تعلم الخياطة (Buitelaar 1988: 16).
بناءً على نتائج هذه الدراسات أنشأت فصول لمحو الأمية وتعليم الخياطة في المركزين الصحيين في الغليل والمغتربين بالتعاون مع جمعية المرأة اليمنية[112]. في عام 1989 قامت اختصاصية الأنثروبولوجي بزيارة ثانية للحديدة بهدف تحسين برامج الإرشاد الصحي ومساعدة المشروع في لتطوير الإرشاد والتوعية الصحية للنساء في الغليل. كما تم أثناء الزيارة بحث إمكانية إقامة حضانة (روضة) لأطفال المرشدات (Buitelaar 1989) أما مشروع البحث الثالث الذي أجرى عام 1990 فقد جمعت فيه المعلومات حول طريقة عمل وممارسات القابلات التقليديات (الجدات)[113].
توصلت دراسة أخري لقياس أثر المشروع أجريت عام 1990 إلى أن المركز الصحي في الغليل معروف جيدا وأن سكان الحيّ راضون عن الخدمات التي يقدمها ويريدون المزيد من خدمات الصحة العلاجية وتوفير الأدوية الأساسية والمختبرات الطبية (Abdulghani et al. 1990: 5). صمم المشروع لتغطية 80 إلى 90% من احتياجات مناطق الغليل والمغتربين و40 إلى 50% من احتياجات المدينة بأكملها من خدمات صحة الطفولة وقد استفاد العديد من سكان المناطق الأخرى بالفعل من خدمات المشروع (مصدر سابق 34).
وفي نفس الوقت بدأت العديد من منظمات التنمية الأجنبية تبدي اهتماما متزايدا بالرعاية الصحية الأولية وأقامت برامج لتدريب المرشدات خاصة عقب أزمة الخليج الثانية التي أدت إلى عودة الآلاف من المغتربين اليمنيين من السعودية ودول الخليج لبلادهم عبر الحديدة أقرب مدينة يمنية كبيرة للحدود السعودية أواخر عام 1990. اندمج العائدون من الذكور غير المتزوجين الذين عادوا إلى مناطقهم الأصلية في اليمن في مجتمعاتهم بسرعة لكن الأسر وأولئك الذين غابوا عن اليمن لفترات طويلة والذين ليس لديهم أقارب في اليمن والذين ولدوا في السعودية استقروا فيما يشبه المخيمات خارج المدن لأنهم عاشوا في المدن لفترات طويلة ولم يكونوا راغبين في العودة إلى المناطق الريفية (Stevenson 1993: 17; Van Hear 1994: 24; Lucet 1995: 32).
خلال عام واحد ازداد عدد سكان الحديدة بحوالي 50% من 200 ألف عام 1990 إلى 300 ألف نسمة على الأقل (Lucet 1995: 28). وظهرت العديد من مناطق السكن العشوائي حول المدينة متمددة إلى سهل تهامة شبه الصحراوي الذي يتميز بحرارة شديدة وعواصف ترابية بين وقت وآخر.
كان الوضع في هذه المناطق سيئا جدا حيث كانت المساكن رديئة وتفتقر إلى المياه الجارية والتصريف الصحي والخدمات الصحية محدودة جدا في وقت انسحبت فيه العديد من المنظمات الأجنبية المانحة العاملة في التنمية على أساس ثنائي من اليمن نتيجة لموقفها في مجلس الأمن من أزمة غزو العراق للكويت. وبقيت بعض المنظمات غير الحكومية مثل منظمة أوكسفام البريطانية التي شيدت مركزيين صحيين جديدين في منطقتي الربصة والسلخانة العشوائيتين ومولت مشروعا لتدريب المرشدات عام 1993[114]. كما قامت هيئة التنمية الدولية البريطانية بدعم مركزيين صحيين هما مركز الحواك في قلب مدينة الحديدة والمركز الصحي الجديد في حي الربصة العشوائي ونظمت عددا من الدورات التدريبية للمرشدات[115]. ومولت الحكومة الهولندية مشروعا لتحسين نظام الشرب وإنشاء 18 حنفية عامة لتزويد السكان بمياه الشرب عام 1994.
تأثر المشروع مباشرة بحرب الخليج بطرق مختلفة حيث تزايد عدد سكان منطقة المشروع التجريبي أي منطقتي الغليل والمغتربين وتغيرت التركيبة السكانية فيهما فجأة وتم الاستيلاء على أية قطعة ارض خالية بدخول اسر العائدين إلى المنطقة فيما غادر بعض سكان المنطقتين الأصليين إلى مناطق أخري للاستفادة من الأراضي المتاحة في المناطق العشوائية الجديدة.
تزايدت الحاجة للخدمات الصحية بتزايد أعداد العائدين ونمو المناطق العشوائية الجديدة واتضح جليا أن النظام الصحي القائم عاجز عن تلبية الاحتياجات الصحية المتزايدة بطريقة ملائمة. وكان الأثر الثالث لازمة الخليج هو إجلاء موظفي المشروع الأجانب من اليمن عقب أيام من بدء العمليات العسكرية مباشرة في يناير 1991. تم تفسير الموقف الذي اتخذته اليمن في الأزمة والحرب التي أعقبتها تأييدا للعراق وخشيت الحكومات الغربية من أن يتعرض رعاياها في اليمن للأذى إذا بقوا في اليمن، وغادر اليمن كل الخبراء الأجانب تقريبا كأجراء أمنى احتياطي ولم يعودوا إلا بعد ثلاثة أشهر. نتيجة لهذا الإجراء اضطر الكادر اليمني لإدارة المشروع بنفسه وكان لهذا التحول نتائج إيجابية على المشروع، فبينما كان بول فيلن وثيرا دي هاس يقومان بالإشراف على كل تفاصيل إدارة المشروع أصبح الآن على اليمنيين مواجهة المشاكل واتخاذ القرارات وتنفيذها بأنفسهم وأصبح المشروع أكثر استقلالية من الجانبين المالي والفني ونما حس قوي بملكية المشروع وسط العاملين فيه، كان أفضل مثال لذلك هو تعيين إحدى المرشدات مسؤولة عن إحدى العيادات. قبل أزمة الخليج كانت ثيرا دي هاس تدير عيادة الغليل بينما تدير فاطمة سالم عيادة المغتربين، بعد مغادرة ثيرا دي هاس نتيجة لازمة الخليج عينت المرشدة منى التي تخرجت ضمن أول دفعة من المرشدات مسؤولة عن مركز الغليل. وكانت منى قد عملت لسنوات مع ثيرا دي هاس وتعرف جيدا كيف تدير المركز وقد أتاحت لها حرب الخليج فرصة أن تثبت جدارتها بهذا المنصب. واقتنع حامد حسن النظير اليمني لمدير المشروع الذي كان قليل الثقة بكفاءة المرشدات قبل حرب الخليج بقدرتهن على القيام بهذا العمل وتم في أبريل عام 1991 تعيين المرشدة منى مسؤولة عن المركز الصحي في الغليل رسميا والمرشدة رهام، التي تدربت في الدورة الأولى أيضا، مسؤولة عن مركز المغتربين.
بعد حرب الخليج اهتمت العديد من المنظمات المحلية والأجنبية بتقديم العون للعائدين، وقامت عدد من البعثات الاستشارية بزيارة الحديدة وقدمت مقترحاتها حول كيفية تحسين أوضاع العائدين (cf. Nientied and Öry 1991; Oldham 1993). لكن القليل فقط تم تنفيذه من مقترحات هذه البعثات وكان أهم سبب لذلك هو أن إدارة التعاون التنموي الدولي الهولندي اعتمدت السياسة الدولية لمكافحة الفقر وبدأت في إجراء دراسات للحصول على معلومات كمية ونوعية حول مستوى الفقر. وقد اعتبرت الحديدة أفقر مدن اليمن موقعا مناسبا لإجراء دراسة تجريبية حول الفقر. في أغسطس 1993 وصل فريق بحثي لإجراء هذه الدراسة وكنت أنا عضوا في هذا الفريق كأنثروبولوجية. كانت المعلومات مفيدة بالنسبة للمشروع (Jongstra 1994; Qassim 1994; De Regt 1994) لكن دراسة الفقر لم يستفد منها في أي مبادرة جديدة في المدينة.
لم يكن فريق مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة في انتظار دراسة جديدة فقد بادروا وشرعوا 0000تأسيس نظام للرعاية الصحية الأولية في المناطق التجريبية في الغليل والمغتربين في المرحلة الأولى للمشروع (1978 – 1992) وتقرر تغطية كل المركز الصحية في الحديدة تدريجيا أثناء المرحلة الثانية للمشروع (1992 – 1997) مع التركيز على مناطق العائدين الفقيرة لكن مشروع برنامج المرحلة الثانية من المشروع لم يضع في حسبانه نشاطات المنظمات الأخرى العاملة في الحديدة لم يكن هنالك أي تنسيق معها تقريبا وكانت كل منظمة تقيم نظامها الخاص للرعاية الصحية الأولية وتنظم دوراتها الخاصة لتدريب المرشدات.
وكان مكتب الصحة في الحديدة يعمل مع كل هذه المشروعات المختلفة بإستراتيجية تشبه سياسة فرق تسد، حيث اعتبرت أنها ستستفيد أكثر من وجود المنظمات المختلفة كلما قل التنسيق بينها، وفي غياب قواعد ونظم واضحة، فيما يخص المرتبات المتعددة مثلا، يمكن لإداريي مكتب الصحة طلب ما يشاءون من كل منظمة أجنبية على حده. علاوة على ذلك أصبح من الجلي أن وجود عدة مشاريع تستخدم أنظمة مختلفة قد أدى إلى انتشار الخدمات الصحية.
وبالرغم من أن كل المشروعات عملت على نفس عناصر الرعاية الصحية الأولية بالتركيز على خدمات صحة الطفولة والأمومة والتثقيف والتوعية الصحية التي تقوم بها المرشدات إلا أن لم يكن هنالك نظام منسجم وموحد. كان وجود كل هذه المنظمات التي تنفذ مشروعاتها الخاصة معوقا لتأسيس نظام للرعاية الصحية الأولية على نطاق المدينة وبالتالي تقدم مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة.
في مايو 1993 بادر مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة بدعوة المؤسسات والمنظمات المانحة العاملة في مجال الرعاية الصحية الأولية في الحديدة إلى اجتماع لبحث إمكانيات التنسيق والتعاون وتم التوصل إلى ما سمى بعدها بـ "الخطة العامة" للحديدة (مكتب الصحة بمحافظة الحديدة 1993) التي وقعت عليها كل الأطراف ذات الصلة. وتضمنت الخطة العامة استخدام نظام الرعاية الصحية الأولية الذي تم تطبيقه في الغليل والمغتربين كنموذج وتعميمه على مدينة الحديدة بأكملها، وان يكون هنالك تعاون أوثق بين كل المانحين والمساهمين المحليين (مصدر سابق 12) وان يضم لهذا البرنامج كل المراكز الصحية الحكومية في الحديدة وبهذا يغطي البرنامج ثلاثة مراكز صحية رئيسية في المدينة تقدم خدمات الصحة العلاجية والوقائية وعشرة مراكز صحية فرعية تقدم خدمات الصحة الوقائية.
المراكز الصحية التي لم تكن تحصل على أي عون أجنبي كانت تقدم خدمات الصحة العلاجية فقط مثل علاج الجروح والحقن بالإبر ورعاية الطفولة (وزن الأطفال دون الخامسة وتطعيمهم). في مركز التحرير الرئيسي كان هنالك طبيب، ومختبر طبي وصيدلية صغيرة وممرض وعدد من القابلات بينما كان هنالك ممرضين وقابلات فقط في المراكز الصحية الصغيرة. لم تكن المراكز الصحية الحكومية تنظم الزيارات المنزلية ولا تقدم خدمات التوعية والتثقيف الصحي ولم يكن بها نظام للرعاية الصحية الأولية يقوم على أساس طريقة تقدير المخاطر لمراقبة الحالة الصحية للأسر والأفراد. لذلك تقرر ترفيع المراكز الفرعية الصغيرة إلى مراكز صحية كاملة لرعاية الطفولة والأمومة على غرار مركزي الغليل والمغتربين ليصبح مركز الغليل واحدة من أكبر المراكز الصحية مع المركز الذي أنشأ مؤخرا في حي السلخانة العشوائي. لقد ولدت فكرة إقامة نظام للرعاية الصحية الأولية تتكامل فيه خدمات الصحة العلاجية والوقائية من الإدراك الجديد على نطاق العالم بأن خدمات الصحة الوقائية وحدها لا تكفي.
عن المؤلفة
مراجع وهوامش
[103] كان كارل يان روير طبيبا عمل في مجال الصحة العلاجية فقط فيما كان لثيرا دي هاس ممرضة الصحة العامة خبرة طويلة في رعاية الأمومة والطفولة لكنها كانت قليلة الخبرة في مجا ل الرعاية الصحية الأولية
[104] طريقة تقييم المخاطر تعني إيلاء اهتمام أكبر للمجموعات المعرضة للإصابة بالأمراض أكثر من غيرها وقد تم تحديد المعايير الآتية في مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة لتحديد ما إذا كانت هنالك أسرة أو امرأة حامل أو طفل معرضا لمخاطر إضافية: - على المستوى العائلي: الأسرة التي تعيش مع واحد فقط من الوالدين، عدم توفر المياه الجارية في البيت، الأسرة التي توفى خمسة أو أكثر من أطفالها، إضافة إلى المعوقين أو إصابة أحد أفراد الأسرة بمرض مزمن. وسط النساء الحوامل تحددت المخاطر بالحمل بعد الخامسة الثلاثين وقبل السادسة عشر من العمر، أربع أو أكثر من حالات الإجهاض السابقة والحامل التي يقل وزنها عن 35 كيلوجراما. أما وسط الأطفال فقد تم تحديد المخاطر بالآتي: الوزن المنخفض بعد الولادة. الأطفال الذين لا يرضعون من أثداء أمهاتهم، وتوقف النمو لشهرين.
[105] خلفية وتجارب الدفعة الأولى من المرشدات ستناقش بالتفصيل في الفصل الرابع.
[106] التقييم السريع A rapid appraisal أداة بحث نمطية معتادة في التنمية. بدلا من العمل الميداني الطويل المدى بواسطة شخص واحد يقوم بإجراء البحث عدد من الأشخاص مستخدمين مناهج بحث متعددة مثل الاستقصاءات، والمناقشات الجماعية والملاحظات. ويستهدف التقييم العاجل تقديم استعراض عام للموقف حول مشكلة ما لتحديد اتجاه عام للتحرك أو إجراءات لتحسين الوضع. (هيبربرت 1987).
[107] في الفصل الخامس سأتحدث مفصلا عن الشابات اللواتي اشتركن في بحث التقييم العاجل واللواتي انضم اثنتان منهن للدورة التدريبية للدفعة الثانية من المرشدات.
[108] سأركز على هذه الأفكار في الفصل السادس.
[109] مقابلة مع بول فيلن، 2 سبتمبر 1999.
[110] أثناء الزيارات المنتظمة كان المرشدات يقدمن الإرشاد الصحي للأمهات حول، التغذية، الصحة، تنظيم الأسرة، النظافة الشخصية، ورعاية الأطفال كما كانوا يقومون بوزن الأطفال الصغار وتوزيع المحاليل المضادة لفقدان السوائل في حالات الإسهال كما كن يقدمن معلومات للأمهات حول الخدمات المتوفرة في المراكز الصحية ومحاولة بناء علاقة قائمة على الثقة الشخصية.
[111] كانت الفكرة الأساسية لنظام المعلومات الصحية هو إعطاء كل أسرة في المنطقة بطاقة صحية تتضمن المعلومات الأساسية حول أفراد الأسرة، كانت هذه البطاقات تبقى في المركز بينما يحتفظ كل أفراد الأسرة ببطاقة صغيرة تحتوي على عنوانهم وبهذه الطريقة كان يمكن متابعة الأطفال حديثي الولادة ومراقبة التطعيم وتوفير الرعاية لحالات ما قبل وبعد الولادة. إضافة إلى ذلك خصص لكل طفل دون الخامسة من العمر بطاقة لمراقبة النمو (كان يسمى أيضاً بطاقة الطريق إلى الصحة) وبطاقة تطعيم كما تتسلم كل امرأة حامل بطاقة لمتابعة حملها.
[112] كان لفصول محو الأمية وتعليم الخياطة عدة أهداف فقد كانت بالدرجة الأولى استجابة لرغبة النساء إضافة إلى أنها كانت وسيلة لجذب النساء إلى المراكز الصحية كما أنها وفرت فرصة للتثقيف الصحي علاوة على أن تعليم الأمهات يسهم في تحسين صحة أطفالهن، أما فصول تعليم الخياطة فقد استهدفت تزويد النساء بمهارات قد تساعدهن في زيادة دخولهن.
[113] نظم المشروع دورة تدريبية للجدات عام 1987 لكن عدد قليل جدا منهن واصلن زيارة المركز الصحي.
[114] تخرجت تسعة عشر مرشدة من هذه الدورة التدريبية.
[115] قامت هيئة التنمية الدولية البريطانية بتدريب إحدى وعشرين ثم ثلاث عشرة مرشدة عامي 1992 و1996 على التوالي.