صنعاء 19C امطار خفيفة

رائدات في ظروف غير مواتية 13 - الرعاية الصحية كواحدة من مكونات المشروع اليمني الهولندي

تستعرض المؤلفة هنا البدايات العملية للمشروع، حيث لم ينطلق كمبادرة صحية مستقلة، بل كجزء من مشروع أوسع لتحسين الصحة وجمع النفايات في الحديدة. يوثق القسم نقطة التحول الحاسمة، عندما تم تعديل الفكرة الأولية لتدريب عاملين صحيين ذكور، بناءً على رؤية المسئولين اليمنيين، لتصبح المبادرة مخصصة لتدريب نساء "مرشدات صحيات". كما يتناول تفاصيل تأسيس أول مركز صحي، واختيار الدفعة الأولى من المرشدات، والتحديات الإدارية التي واجهت المشروع في مراحله الأولى قبل أن ينفصل ويصبح مشروعًا مستقلاً للرعاية الصحية الأولية.


4.2      الرعاية الصحية كواحدة من مكونات المشروع

بدأ مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة رسميا عام 1987 لكن أنشطة المشروع الفعلية كانت قد بدأت منذ عام 1984 كجزء من مشروع الحديدة لجمع وتصريف القمامة وتطوير الصحة. كانت الحكومة الهولندية قد بدأت مثل هذه المشروعات في وقت مبكر بمشروع لجمع وتصريف القمامة في تعز ثم طلبت الحكومة اليمنية إنشاء مشروع مماثل في الحديدة التي تعتبر من أفقر المدن اليمنية بأحزمة الفقر المتنامية حولها لتزايد الهجرة إليها من قرى تهامة الفقيرة.

رئدات في ظروف غير مواتية صورة الغلافبتوسع قطاع الاستيراد في اليمن نمت الحديدة بسرعة لتصبح الميناء الرئيسي لليمن الشمالي وازدادت أهميتها وبذلت الحكومة اليمنية جهودا كبيرة لتطوير البنيات الأساسية في المدينة حيث زودت المدينة بخدمات مياه الشرب النقية والتصريف الصحي وعبدت الطرق وبنيت المدارس ومولت هذه الأنشطة من قبل الحكومة واليمنية أو دعمت ماليا بواسطة بعض الدول العربية في المدينة التي استقبلت سكانا قدموا إليها أيضا من المدن اليمنية الأخرى مثل صنعاء وتعز[91] وكان معظمهم من التجار والمتعلمين الذين عملوا في التجارة والصناعة. كما اجتذبت فرص العمل الجديدة والخدمات الجيدة العديد من المهاجرين من المناطق الريفية في تهامة التي كانت تعاني من حرمان شديد دفع بسكانها إلى الحديدة والسعودية. نشأ حزام كبير من مناطق السكن العشوائي حول المدينة يسكنه حوالي 45 ألف شخص من سكان الحديدة الذين بلغ عددهم مائة وثمانين ألف نسمة عام 1983 (DGIS 1983, annex 1: 2)..

قام فريق طبي هولندي يتكون من طبيبين هولنديين، أحدهما هو المستشار الطبي لإدارة التعاون التنموي الدولي الهولندي، بزيارة لمدينة الحديدة بطلب من الحكومة الهولندية بهدف إعداد مشروع تنموي هولندي يمني لجمع وتصريف القمامة في المنطق الحضرية حيث أجمعت البعثة والمسئولين الحكوميين في المدينة بأنها المشكلة الكبرى. إذ وجددت أكوام كبيرة من القمامة تتناثر في كل مكان مشكلة تهديدا مباشرا وجديا لصحة السكان في مدينة ترتفع فيها درجات الحرارة والرطوبة. بالرغم من أن جمع وتصريف القمامة كان من مهام البلدية إلا أنها كانت عاجزة عن القيام بذلك،

وعلى أية حال فإن مشروع جمع وتصريف القمامة كان مجرد نقطة انطلاق بالنسبة للدكتور كلاس ويت المستشار الطبي لإدارة التعاون التنموي الدولي الهولندي الذي كان يريد إنشاء مشروع حضري متكامل في الحديدة يهتم بالسكن العشوائي. بينما ركزت مشروعات التنمية في المرحلة الأولى على التنمية الريفية على نطاق العالم لمقاومة هجرة السكان إلى المناطق الحضرية، بدأ الاهتمام يتحول في الثمانينيات إلى المناطق الحضرية وتلبية احتياجاتها. كان قد أصبح من الواضح أن الهجرة إلى المدن وتمدين المناطق الريفية في تزايد مستمر بالرغم من أنشطة التنمية التي استهدفت الريف. وبالرغم من أن المدن قد انتفعت من التقاسم غير العادل للموارد على حساب الريف إلا أن العديد من مظاهر عدم المساواة داخل المدن نفسها قد تم التغاضي عنها وكانت مناطق السكن العشوائي واحدة من نتائج تزايد نمو المناطق الحضرية[92]. اعتبرت ظروف الحيّاة السيئة في المناطق العشوائية مثل نقص المياه النظيفة، السكن الرديء، وانعدام فرص العمل والرعاية الصحية سببا رئيسيا لارتفاع معدات وفيات الرضع والأطفال. وفي منتصف الثمانينيات بدأت هذه الآراء تجد قبولا تدريجيا لكن التنمية الحضرية كانت ما تزال مجالا جديدا في العون التنموي ولم تطور أية مفاهيم أو نماذج لتنمية المناطق العشوائية.

وكان تطوير مشروع لجمع وتصريف القمامة في الحديدة وتضمين الرعاية الصحية كأحد مكوناته هي الخطوة الأولى على طريق تأسيس مشروع للتنمية الحضرية المتكاملة. لاحظ أعضاء الفريق الهولندي أثناء زيارتهم أن أوضاع الرعاية الصحية في المنطق العشوائية كانت سيئة جدا" إذ كانت هذه المناطق محرومة من خدمات مياه الشرب والتصريف الصحي الخاصة بالمدينة والغياب التام لمرافق الرعاية الصحية" (مصدر سابق الملحق 2). كما لاحظوا أن كلا المستشفيين في المدينة يعانيان من الازدحام بالمرضى بالعكس من المركز الصحي الرئيسي والمراكز الفرعية الستة وان القليل جدا من الجهد قد بذل في مجالي الإرشاد الصحي ومكافحة الأمراض. خلال السنوات العشرة الماضية عانت الحديدة من تفشي وبائي الكوليرا والدفتيريا اللتان بدتا مستوطنتين في المدينة (مصدر سابق) لذلك عملت البعثة الهولندية على إعداد مشروع يشمل مكونين اثنين هما جمع وتصريف القمامة والرعاية الصحية، كان الهدف النهائي العام للمشروع هو "الإسهام في تحسين صحة سكان مدينة الحديدة" والهدف الأكثر تحديدا للمشروع هو "تحسين الصحة البيئية للمدينة والأوضاع الصحية لسكان المنطق العشوائية في الهامش بشكل عام" (مصدر سابق).

حدد تقرير الفريق أن يتم تنفيذ كل من المشروعين على حده لكن تحت نفس المظلة حيث يتم تنفيذ مشروع جمع وتصريف القمامة بالتعاون مع وزارة البلديات والإسكان وتتكون أنشطتها من تشييد ورشة وموقع لتجميع القمامة وتوزيع صناديق القمامة وشاحنات الضغط وإقامة برنامج للتوعية الصحية حول جمع القمامة وتدعم أنشطة البلديات في الرقابة والتفتيش الصحي على أن يغطي مشروع جمع وتصريف القمامة كامل المدينة. المكون الصحي في المشروع سيتم تنفيذه بالتعاون مع وزارة الصحة العامة وتتكون أنشطته من تأسيس نظام للرعاية الصحية الأولية يقوم على مركز صحي في واحدة من مناطق السكن العشوائي وتدريب عدد من العاملين الذكور على الرعاية الصحية الأولية وتأسيس نظام للمعلومات والتوعية الصحية. على أن يبدأ المشروع في منطقة تجريبية لأنها كانت التجربة الأولى لإدخال أنشطة الرعاية الصحية الأولية الحضرية لليمن على أن يتم تعميم التجربة واعتبارها نموذجاً للتطبيق في مجال الرعاية الصحية الأولية في اليمن إذا نجحت.

اختير حي الغليل العشوائي كمنطقة تجريبية بالتعاون مع مدير مكتب الصحة في الحديدة على أن يضاف لها مركز صحي آخر في حي عشوائي آخر في مرحلة لاحقة من المشروع وكان من المقرر أن يستمر المشروع لثلاث سنوات منذ بداية عام 1984 حتى نهاية عام 1986.[93] واتفق على أن يتكون فريق تنفيذ أنشطة المشروع من مدير أجنبي للمشروع وخبير أجنبي في الصحة العامة وباحث اجتماعي أجنبي توظفه إدارة التعاون التنموي الدولي الهولندي على أن يعملوا جميعا بالتعاون الوثيق مع نظرائهم اليمنيين من الوزارات المختصة يضاف إليهم موظفو الوزارات اليمنية ذات الصلة بالمشروع مثل مفتشي الصحة الذين كان يعملون لدى وزارة البلديات إضافة إلى موظفين جدد يتم تدريبهم وتوظيفهم (مشروع الحديدة لتطوير الصحة وجمع وتصريف القمامة(Hodeida Health Improvement and Waste Disposal Project 1984: 4).

وقع الاختيار على حي الغليل لأنه كان أفقر أحياء الحديدة العشوائية ويقع عند الطرف الجنوبي الشرقي للمدينة ومعظم سكانه من المهاجرين الريفيين الذين كان يقدر عددهم بـ 14 ألفا عام 1984 (مصدر سابق 8). الحيّ الآخر الذي اتفق على ضمه للمشروع في مرحلة لاحقة هو حي المغتربين في شمال المدينة، وبينما نشأ حي الغليل بشكل عشوائي تماماً نتيجة لتزايد الهجرة من الريف للحديدة كان حي المغتربين مخططاً للمهاجرين العائدين من الخارج. عمل الرئيس إبراهيم الحمدي الذي جاء إلى السلطة عام 1974 على تشجيع اليمنيين الذين يعيشون في الخارج على العودة إلى بلادهم ووعدهم بمستقبل أفضل وكان مما جذب العديد من اليمنيين للعودة للبلاد الوعود التي أطلقت بتوفير السكن المجاني والعمل المأجور لهم وتم تخطيط حي المغتربين في الحديدة في هذا الإطار.

على أية حال، فقد اغتيل الرئيس الحمدي عام 1977 ولم يتحقق إلا القليل من تلك الوعود إذ أن حي المغتربين لم يكتمل بنائه وبنى العديد من العائدين منازلهم بأنفسهم وبدلاً من أن يكون واحداً من أحياء المدينة الجيدة كان حي المغتربين أقرب إلى منطقة للسكن العشوائي بمنازله الرديئة التشييد وسكانه الغارقين في الفقر، وكانت ظروف المعيشة الرديئة لسكان حي المغتربين واحداً من الأسباب التي جعلت الحيّ جزءاً من المشروع.

في أوائل عام 1984 وصل إلى الحديدة مدير المشروع الهولندي كارل يان روير وزوجته وخبير صحة عام تونسي الجنسية. استأجر السيد روير فيلا في الحيّ التجاري في شمال المدينة حيث كان التجار الأغنياء يبنون الفيلات ليسكنوا فيها أو لتأجيرها وكان يسكنها معظم الخبراء الأجانب. حول السيد روير إحدى غرف منزله لمكتب وبدأ في الاتصال بالسلطات المحلية في انتظار الموافقة النهائية على المشروع "عندما وصلنا للحديدة لم يكن لدينا أي شيء على الإطلاق وبدأت أتحدث لمختلف أنواع الناس، كان علينا أن نبدأ تنفيذ مشروع جمع وتصريف القمامة وبناء ورشة ومظلة وغير ذلك. وكان علينا صنع براميل القمامة وكان علّي أن أرتب كل ذلك وأن أتحدث مع النظراء اليمنيين حول كيفية البداية".

لم يكن كارل روير يتحدث العربية وبالتالي انحصرت صلاته بمن يتحدثون الإنجليزية فقط من الموظفين الحكوميين جيدي التعليم وبما أن المشروع كان مشروعاً مشتركا بين وزارتي الصحة العامة والإسكان والبلديات فقد تعين على كلا الوزارتين أن تسمي ممثلا لها في المشروع يعمل كنظير للخبير الهولندي. عينت وزارة البلديات والإسكان المهندس سعيد كنظير يمني في المشروع ولم تعين وزارة الصحة ممثلا لها حيث اضطلع الدكتور عبدالله أحمد المدير العام لمكتب الصحة في الحديدة بمهام تأسيس المشروع وينحدر الدكتور عبد الله من أسرة غنية من القضاة في تعز وكان طبيبا يجيد الإنجليزية وأصبح مسئولاً عن المشروع بحكم وظيفته كمدير عام للصحة في محافظة الحديدة ولم يكن بوسعه أن يصبح ممثلاً لوزارة الصحة في المشروع في نفس الوقت ومع ذلك فقد فضل الدكتور عبد الله أحمد أن يكون قريباً جداً من المشروع وأن يطرح أفكاره ويناقشها مع فريق المشروع. لقد أثرت صلة عبد الله أحمد بالمشروع وجديته وحرصه على تطوير الوضع الصحي في الحديدة تأثيراً كبيراً ورئيسياً على تطور المشروع خاصة فيما يتعلق بتدريب العاملين في الرعاية الصحية.

كانت الفكرة الأولية لبعثة إعداد المشروع تتلخص في تدريب أربعة من عاملي الرعاية الصحية الأولية الذكور ليتم مساعدتهم فيما بعد بواسطة نساء متطوعات. عبر كارل يان روير عن هذه الأفكار الأولية كما يلي:

"كنا نعتقد أنهم يجب أن يكونوا رجالاً من عاملي الرعاية الصحية الأولية العاديين الذين تساعدهم نساء يقمن بأدوار تشبه أدوار المرشدين على أن يكن متطوعات من نفس المناطق التي ينفذ فيها المشروع وراغبات في أداء هذا العمل مقابل مبلغ محدود على ألا يتم توظيفهن بالكامل وأن يقمن بالزيارات المنزلية في المنطقة لأن عاملي الرعاية الصحية الأولية الذكور لا يستطيعون زيارة البيوت في غياب الرجال".

بعد مفاوضات مطولة مع د. عبد الله أحمد، تقرر تدريب النساء كعاملات رعاية صحية أولية بدلاً من الرجال (مصدر سابق 8) وكان هذا تحولاً مثيراً للاهتمام ونموذجاً حياً للفروق بين المفاهيم الهولندية واليمنية حول دور المرأة اليمنية في الحيّاة العامة إذ افترض صناع السياسة الهولنديون تلقائياً أن العاملين في الرعاية الصحية الأولية يجب أن يكونوا رجالاً بناءً على فهمهم للفصل بين الجنسين والاعتقاد المترتب عليه بأن المرأة اليمنية لا تستطيع أن تدخل مجال العمل المأجور في الخدمة العامة. أما وفقاً لرؤية د. عبد الله أحمد فإن الفصل بين الجنسين يوفر في هذه الحالة فرصة لتدريب النساء كمهنيات في الرعاية الصحية الأولية لأنهن أكثر قدرة للوصول للنساء في المناطق العشوائية ونصح إدارة المشروع بأن تجعل خدمات صحة الأمومة والطفولة مركزاً لأنشطة المشروع.

قبل كارل يان روير هذه الاقتراحات بحماس وتم ترتيب تدريب نساء كمهنيات في مجال الرعاية الصحية الأولية. تضمنت خطة العمل الفقرة التالية تبريراً لهذا الخيار " بما أن المرأة أو الزوجة هي العامل الرئيسي في تحديد صحة ونظافة المنزل فان هذا الجزء من المشروع يعتمد على النساء ويتوجه إليهن بشكل رئيسي وبالتالي فقد أضيفت عيادة لصحة الأمومة والطفولة إلى المشروع "(مصدر سابق). وهكذا انحصر المشروع من رعاية صحية تستهدف تطوير أوضاع الرعاية الصحية في الأحياء العشوائية إلى أنشطة تقتصر على رعاية صحة الطفولة والأمومة وقرر كارل روير وعبد الله أحمد أن يشترط في النساء الراغبات في التدرب أن يكن قد أكملن التعليم الابتدائي وأن تتجاوز أعمارهن الثامنة عشرة ويفضل أن يكن لديهن أطفال لكسب ثقة الأمهات ولتوصيل رسالة التثقيف الصحي حول الأمومة والطفولة.

فيما يتعلق بخلفياتهن تم التأكيد على ضرورة أن تسكن النساء في مناطق المشروع وفقاً للشروط المعتادة في عاملي الصحة المحليين على أن ينتمين إلى عائلات محترمة لضمان حصولهن على احترام المجتمع وحدد خطة العمليات لعام 1984 عدد النساء اللواتي يجب تدريبهن كمهنيات للرعاية الصحية بـ 10 نساء.

وبينما كانت الفكرة الأولية هي تأسيس أربع وحدات للرعاية الصحية الأولية حول المراكز الصحية القائمة (DGIS 1983, annex 1: 3) عدل ذلك في خطة العمليات للعمل في المراكز الصحية الفرعية نفسها دون إنشاء وحدات جديدة (Hodeida Health Improvement and Waste Disposal Project 1984: 8) ومنح المشروع جزءاً من المركز الصحي في الغليل الذي كان مملوكاً لجمعية التنمية المحلية[94] ويعمل في تقديم خدمات الصحة العلاجية لإنشاء عيادة لرعاية الأمومة والطفولة.

انضمت لفريق للمشروع ممرضة صحة عامة وقابلة هولندية في منتصف عام 1998، عملت ثيرا دي هاس وفيرا تيرانيو من قبل في برنامج الخدمات الصحية بمحافظة ذمار[95] لكنهما حولتا إلى مشروع الحديدة بعد إعادة هيكلة برنامج ذمار وتتمتعان بخبرة عملية طويلة في مجال رعاية صحة الأمومة والطفولة في هولندا والبلدان النامية. عملت ثيرا دي هاس كممرضة صحة عامة في هولندا وكينيا وكانت في أواخر الأربعينيات من عمرها عندما جاءت إلى اليمن، وعملت فيرا تيرانيو في عدد من الدول النامية وقد تلقتا دورة تعليمية مكثفة في اللغة العربية قبل الحضور لليمن. كانت مهمتهما الأساسية هي إنشاء خدمات صحة الأمومة والطفولة في المركز الصحي في الغليل. لم تكن دي هاس وتيرانو مسؤولتين عن اختيار وتدريب الدفعة الأولى العاملات في الرعاية الصحية الأولية لكن إدارة المشروع توقعت أن تسهما في تدريبهن والإشراف عليهن أثناء عملهن في المراكز الصحية.

في نفس الوقت تقريبا وصلت إلى اليمن السيدة يوكا بورينخا وهي هولندية متخصصة في الانثروبولوجيا الطبية لتولى مسؤولية الإشراف على البحوث القصيرة المدى وتطوير برنامج للتثقيف الصحي لمكوني المشروع الرعاية الطبية وجمع وتصريف القمامة وقد تلقت هي أيضا دورة تدريبية مكثفة في اللغة العربية. سكنت فير دي هاس في فيلا قريبة من الغليل فيما اتخذت يوكا بورينخا فيلا في الحيّ التجاري.

كان الحصول على المتدربات وتنظيم الدورات التدريبية للنساء الراغبات في العمل في الرعاية الصحية الأولية هي مهمة د. محمد أخصائي الصحة العامة التونسي. تضمنت خطة العمل التي وضعت عام 1984 وصفا وظيفيا لمهام العاملة في الرعاية الصحية الأولية نص على آلاتي: " ينبغي أن تكون المرشحة لشغل هذه الوظيفة بصحة جيدة، أكملت الصف التاسع وان يتم اختيارها بواسطة سكان الحيّ وأن تتعهد بأنها ستعمل من اجل وفي مجتمعها المحلي" (مصدر سابق الملحق 2. 3). وكان هناك شرط أخر ذُكر في ملحق أخر وهو أن يتراوح عمر المرشحة للعمل بين 18 و35 عاما من العمر.

تلخصت أهم واجبات العاملات في الرعاية الصحية الأولية في الإرشاد الصحي والتثقيف في مجال صحة البيئة. وبما أن واجباتهن كانت تتركز في الإرشاد والتوعية الصحية والبيئية فقد تقرر أن يسمين "مرشدات"[96]. وكان عليهن تلقى تسعة أشهر من التدريب في مجالات الصحة الوقائية، الصحة البيئية، التوعية الصحية، وصحة الأمومة والطفولة. كان عملهن يتركز أساسا في الأحياء حيث يقمن بتقديم الإرشاد الصحي للنساء بزيارتهن في بيوتهن فيما تقوم والقابلة والممرضة الهولنديتين بتقديم خدمات صحة الأمومة والطفولة بالتعاون مع مساعديهم اليمنيين. أشارت خطة العمل إلى إمكانية الاستفادة من القابلات للمساعدة في العيادة. والخدمات الرئيسية التي ستوفرها العيادة هي برنامج تحصين الأطفال[97] ورعاية الأطفال دون سن الخامسة والرعاية الطبية قبل وبعد الولادة، وتقديم الإرشادات والنصائح في مجال تنظيم الأسرة وتوزيع موانع الحمل.

قدر عدد المرشدات المطلوبات للعمل في المشروع بعشرة مرشدات وفقا لتقدير عدد المنازل في حي الغليل[98]. وتقرر أن تقوم ثمان مرشدات بالزيارات المنزلية على تعمل اثنتان بالتوعية الصحية في المركز الصحي (مصدر سابق الملحق 4:). كانت خطة العمل تقضي بأن تعمل المرشدات في فرق عمل تتكون كل منها من مرشدتين وان يبدأ العمل بأربعمائة بيت في المرحلة الأولى على أن تتوسع لاحقا. أما عن خلفية المرشدات فقد نصت خطة العمل أن تكون المرشدات من ساكنات حي الغليل نفسه وان تختارهن لجنة من الحيّ دون تحديد طريقة الاختيار سوى إشارة واحدة لها نصت على أنه " من المفترض أن تساعد جمعية المرأة اليمنية في الحديدة على اختيارهن" (مصدر سابق 9).

سأتحدث في الفصل السادس بالتفصيل عن اختيار وتوظيف الدفعة الأولى من المرشدات، ويكفي أن أشير هنا إلى أن مرشدات الدفعة الأولى لم يكنّ من ساكنات حي الغليل ولم تختارهن لجنة. اختارت جمعية المرأة اليمنية عشرة شابات باشرن تدريبهن في أكتوبر 1985 وكانت جميعهن من سكان الأحياء الداخلية (غير العشوائية) في مدينة الحديدة. وقد تم تدريب مرشدات أخريات بواسطة مشاريع تنمية أخرى إلا أن محتوى برامج التدريب كان مختلفا وفقا لفريست موللر المستشار الأجنبي للمشروع في الفترة من 1987 - 1999 الذي يقول:

كانت فكرة تدريب النساء للعمل في الرعاية الصحية الأولية شائعة إلى حد كبير، حيث تم تدريب القابلات المحليات في ذمار ورداع بالرغم من معارضة وزارة الصحة العامة. لقد تم تدريبهن لتطوير مهاراتهن في التوليد وتزويدهن ببعض المعارف حول الصحة الوقائية لكنهن كن مجموعة مختلفة تماما عن الشابات العشر اللاتي تم تدريبهن في مشروع الحديدة إذ أنهن كن قد أكملن الدراسة الابتدائية واكتسبن مكانة مهنية وراتبا"

لم يكن هنالك منهج تدريبي مجاز رسميا لتدريب المرشدات في اليمن حتى عام 1995 وقد أحالت الوزارة إدارة المشروع إلى منهج تدريب المرشدين العاملين في الرعاية الصحية الأولية الذين كانوا رجالا ولم يتلقوا أي تدريب في خدمات صحة الأمومة والطفولة إضافة إلى أن المرشدين عملوا في المناطق الريفية فقط. على أية حال، تم استبعاد بعض مكونات منهج المرشدين مثل خدمات الصحة العلاجية المبسطة والإرشاد الزراعي[99]، وأضيفت إليها التوعية الصحية[100] وخدمات رعاية الأمومة والطفولة والصحة البيئية[101] ولم يكن هناك اهتمام كبير بخدمات ما قبل وبعد الولادة في البرنامج التدريبي باعتبار أن هناك مرافق صحية كافية في الحديدة للاهتمام بالأمهات في حالة الطلق والولادة.

منذ البداية قررت إدارة المشروع أن توظف المرشدات في الحكومة لضمان استمرار عملهن بعد انتهاء التمويل الهولندي. لكن على أية حال لم تجر مشاورات كافية مع وزارة الصحة العامة في صنعاء وبدأ تدريب المرشدات دون موافقة رسمية من وزارة الصحة العامة. تمت مناقشة وإجازة المنهج التدريبي والوصف الوظيفي لعمل المرشدات من قبل د. عبد الله احمد وليس من قبل المسؤولين في الوزارة في صنعاء وقد تبين أثر هذا الإهمال في نهاية الدورة التدريبية حيث رفضت وزارة الصحة العامة في صنعاء تعيين الدفعة الأولى المرشدات في الوزارة[102] وإصدار شهادات رسمية لهن.

بعد فترة قصيرة من بدء التدريب عينت السيدة فاطمة سالم مشرفة على المرشدات وهي ممرضة وقابلة في أوائل عشرينيات عمرها وعملت لسنوات في قسم الولادة في مستشفى الحديدة الرئيسي ولم يكن التدريب والإشراف جديدا عليها وبالرغم من انه كان من الصعب عليها ترك عملها في المستشفى إلا أنها وجدت في عملها الجديد الكثير من التحدي والإثارة.

في السنوات التالية واصلت فاطمة سالم عملها كمشرفة على المرشدات وأصبحت واحدة من أعضاء فريق المشروع المهمين. إضافة إلى المحاضرات النظرية المتنوعة التي قدمها مدربون من معهد التدريب الصحي بالحديدة وآخرون يعملون في مختلف مجالات الرعاية الصحية، تلقت المرشدات أيضا تدريبا عمليا في المراكز الصحية فقد تعرفن من جانب على خدمات رعاية صحة الأمومة والطفولة التي تقدمها ثيرا دي هاس وفيرا تيرانو وتعلمن من جانب آخر كيفية أداء الزيارات المنزلية وتعرفن على حي الغليل وسكانه. وقد ادخل نشاط الزيارات المنزلية في البرنامج التدريبي بدراسة ميدانية أساسية أجرتها يوكا بورينخا الأنثروبولوجية الهولندية العاملة في المشروع بالتعاون مع باحثة اجتماعية مصرية في أبريل 1986. وقد شاركت المرشدات في هذه الدراسة الميدانية بإجراء المقابلات مع سكان حي الغليل. وقد وفرت الدراسة معلومات أساسية حول الأوضاع المعيشية، السمات السكانية، العمل، مستوى التعليم، الصحة العامة والصحة الإنجابية والرعاية الصحية لسكان حي الغليل. وكان الهدف من هذه الدراسة هو استخدام نتائجها في خطط المشروع المستقبلية (Buringa 1986).

تخرجت الدفعة الأولى من المرشدات في أكتوبر 1986 وبدأت عملها في مركز الغليل الصحي. ولم يتحقق أمل إدارة المشروع في أن تقبل وزارة الصحة العامة بتعيينهن في الوزارة تلقائيا. لم يكن إداريو وزارة الصحة العامة في صنعاء سعداء بأن يقوم المشروع الهولندي، كما كان بعضهم يسميه، بتنظيم دورة تدريبية لمرشدات حضريات دون موافقة رسمية من الوزارة. وتبين أن ثقة كارل يان روير في د. عبد الله احمد وحرص الأخير على الإمساك بكل الخيوط بيديه قد أثر سلبا على المشروع. لم تتسلم الدفعة الأولى من المرشدات شهاداتهن الرسمية عقب التخرج مباشرة وقد انتظرن ما يقرب من عام كامل قبل توظيفهن رسميا في وزارة الصحة العامة وظل المشروع الهولندي يدفع مرتباتهن طوال هذه الفترة. وكانت هذه التجربة درسا مهما لإدارة المشروع تعلموا منه ضرورة العمل ضمن ومن خلال الأطر اليمنية لكن مثل هذه الأخطاء قد تكررت في مراحل لاحقة من المشروع، لأنه كان من السهل إعداد الأنشطة وتنظيمها دون التفاوض مع السلطات اليمنية والاعتماد على قراراتها.

انتهت السنوات الثلاث الأولى لمشروع تطوير الصحة وجمع وتصريف القمامة في الحديدة في نوفمبر 1986 وجري تقييمه. توصلت بعثة التقييم إلى أن المشروع سار ببطء ملحوظ في البداية إلا انه حقق إنجازات مهمة في السنة الأخيرة. وكان الخلاصة الأهم لبعثة التقييم هو ضرورة فصل مكوني المشروع الحالي إلى مشروعين مستقلين؛ واحد للصحة البيئية وأخر للرعاية الصحية الأولية. وفي الأول من أبريل 1978 تحول مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة إلى حقيقة ماثلة. وتقرر مد التمويل الهولندي لخمسة سنوات أخرى وتضمين مركز صحي آخر في حي المغتربين في المشروع على أن يستمر المشروع تجريبيا لتجريب واختبار طرق جديدة لتقديم الخدمات الصحية في اليمن.

ℹ️

عن المؤلفة

الدكتورة مارينا دي ريخت هي باحثة وأنثروبولوجية هولندية متخصصة في قضايا النوع الاجتماعي، والعمل، والهجرة في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، مع تركيز خاص وعميق على اليمن. بدأت علاقتها باليمن في أوائل التسعينيات، حيث عملت لسنوات في مشاريع تنموية بمدينة الحديدة، وهو ما أتاح لها فهماً ميدانياً وشخصياً للسياق الاجتماعي والثقافي.لأغراض التحليل.
*

مراجع وهوامش

[91] عند استقلال جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية عام 1967 نزح العديد من المواطنين من عدن إلى الحديدة التي كانت تبشر بفرص تجارية أفضل بعد استيلاء الاشتراكيين على السلطة في عدن.

[92] يمكن تعريف المناطق العشوائية بأنها منطقة من المساكن الرثة التي يقيم فيها السكان دون أن يكون لهم حق قانوني في الأرض التي يسكنونها (Rossi-Espagnet 1984: 48).

[93] كانت مساهمة الجانب الهولندي للفترة من 1984 -1989 10.5 مليون جلدر وكانت المساهمة اليمنية 8 مليون ريال (كان الدولار الأمريكي يساوي 4 ريالات يمنية عام 1985)

[94] أسست جمعيات التنمية المحلية عقب الحرب الأهلية (1962 – 1970) وقامت هذه الجمعيات على أساس العون الذاتي من المجتمعات المحلية لتحسين ظروف حياتهم. في عام 1985 تم دمج هذه الجمعيات في الهيكل الحكومي الرسمي وتم تغيير أسمها إلى للمجالس المحلية للتنمية التعاونية.

[95] كان برنامج الخدمات الصحية بمحافظة ذمار مشروعا مشتركا بين وزارة الخارجية الهولندية ووزارة الصحة العامة اليمنية وقد بدأ عام 1980 وانتهى عام 1990. استهدف المشروع توفير خدمات الصحة العلاجية والوقائية في محافظة ذمار وكان من ضمن البرنامج إنشاء مستشفى وعدد من المراكز الصحية وتحسين البنيات الأساسية وتوفير الأجهزة والمعدات وتدريب الفنيين.

[96] اسم المرشدة مشتق من الكلمة العربية رشد. أسهمت الدلالات الدينية أيضا لاسم مرشدة الذي يتضمن بعدا روحيا في تحسين مكانة المرشدات. وكما كان الحال في المشروع الذي وصفه موريس فقد كن يسمن (البنات) في الحديدة أيضا بالرغم من أن بضعهن كن متزوجات.

[97] كان يتم تطعيم الأطفال دون سن الواحدة ضد أمراض الدفتيريا، السعال الديكي، التيتانوس، الجدري، السل والحصبة فيما كان يتحتم تطعيم النساء الحوامل ضد التيتانوس لحماية أطفالهن.

[98] قدر سكان حي الغليل بأربعة عشر ألف، وكان متوسط عدد سكان البيت الواحد خمسة أفراد وكان الحي يضم 2800 منزلا يمكن أن يتم تغطيتها جميعا بعشرة من العاملات في الرعاية الصحية الأولية (مشروع تطوير الصحة وجمع وتصريف القمامة في الحديدة 1984: ملحق 4).

[99] درب المرشدون العاملون في الرعاية الصحية الأولية في الريف على الإرشاد الزراعي لتعليم المواطنين كيفية زراعة مكونات الأطعمة المغذية.

[100] كانت برامج التوعية الصحية تركز على الرضاعة الطبيعية، التغذية، رعاية الأطفال وخاصة تغذيتهم، الصحة والنظافة، ووسائل تنظيم الأسرة الأمراض المعدية، خدمات ما قبل وبعد الولادة.

[101] كانت مواد المنهج الرئيسية هي صحة المجتمع، صحة الأمومة، صحة الطفولة، الأمراض المعدية، الأمراض غير المعدية صحة البيئة وتنظيم الرعاية الصحية.

[102] في الفصل الخامس سأفصل الأسباب التي أدت إلى رفض منح الشهادات والتعيين.

الكلمات الدلالية