حضرموت.. اعادة ضبط الجغرافيا لنفوذ لا يحب الفواصل الطويلة
لا أحد يعرف من أي شقّ قرر الصراع أن ينساب إلى حضرموت هذه المرة، لكن المؤكد أن المحافظة استيقظت لتجد نفسها وكأنها صارت ساحة تجارب لخيال استراتيجي مضطرب.
التحركات العسكرية الأخيرة بدت كأن أحدهم قلب الطاولة ليرى من يسقط أولاً. قوات تتقدم بثقة أكبر مما تحتاج، وأخرى تتراجع بخجل لا يليق بميادين القتال، وثالثة تتظاهر بأن ما يحدث مجرد “تحديثات ميدانية” لا تستحق القلق، وكأن حضرموت أصبحت مساحة اختبار للخيال السياسي لدى أطراف لا تتفق إلا على شيء واحد هو أن المحافظة صالحة للتجريب أكثر مما هي صالحة للهدوء.
المجلس الانتقالي خطواته نحو الوادي كما لو أنه يعيد ترتيب حدود جغرافية نسي العالم تحديثها. الذراع الإماراتية تعمل بلياقة سياسية عالية. تظهر أقل مما تفعل وتفعل أكثر مما تُظهر، وتترك للجميع فرصة التأمل في أثرها دون الحاجة إلى توقيع واضح.
في الجهة المقابلة تقف المنطقة العسكرية الأولى وكأنها فرع إداري نُسي في دهاليز الحكومة، تتصرف بثقة زائدة حين يكون الأمر شكلياً وبتردد مربك حين يكون الأمر حقيقياً. أما الوجوه المحسوبة على الإخوان فتبدو كأنها تستعيد آخر ما تبقى من حضور سياسي كان يوماً متيناً قبل أن يتحول إلى ما يشبه شبح تنظيم يبحث عن مرآته.
وفي المساحات الواقعة بين الطرفين تنزل بعض القوى القبلية من عليائها لتؤكد أن البنادق لا تزال جزءاً من الهوية أكثر من بطاقة الأحوال المدنية، بينما اللاعبون الإقليميون يتبادلون الابتسامات الرسمية ويشدّون الحبال خلف الكواليس، كلٌ يتظاهر بأن حضرموت مجرد محافظة، فيما هي بالنسبة لهم قطعة نفوذ قابلة للتطوير، يمكن تغيير حدودها على هوى الخريطة. النفط هنا لا يحب الفراغ، فتتحول الحقول إلى سبائك ذهبية مفتوحة للصراعات، حيث التحشيد هنا والانهيار هناك، وخطوط الأنابيب تعامل كأنها نوق يتسابق عليها الفرسان.
السعودية والإمارات تتابعان كما يفعل لاعبان يقلبان دفاتر ملاحظاتهما بينما يحاول كل طرف أن يتظاهر بأنه لا يراقب الآخر. تتحركان بحسابات مختلفة لكنهما تلتقيان في نقطة واحدة: حضرموت ليست أرضاً للنسيان. الأولى تريد إعادة ضبط الجغرافيا بما يناسب رؤيتها للأمن الإقليمي، والثانية تضبط خيوط حضورها وفق إيقاع نفوذ لا يحب الفواصل الطويلة. وبين هذين الإيقاعين يتشكل وضع معقد لا يسمح لأحد بالتصرف وحده، ولا يتيح لأحد الانسحاب بسلام.
الدوافع لا تحتاج إلى تأويل. من يمسك رقبة النفط يمسك رقبة القرار. الانتقالي يعرف وخصومه يعرفون والقبائل تعرف بدرجة جعلت بعضها يظن أنه امتلك فجأة شهادة خبرة في “حماية الموارد الاستراتيجية”. الكل يتزاحم على حقول النفط كأنها ورث سياسي متنازع عليه، بينما الجغرافيا تحاول جاهدة ألا تُظهر انزعاجها.
المستفيدون يتكاثرون كما تتكاثر التفسيرات. الانتقالي يحجز نقاط نفوذ إضافية، الفصائل المحلية تجد مكاسب لم تكن تحلم بها. المجموعات القبلية تكتشف أن الزمن أخيراً ابتسم لها، وحتى الوسطاء والتجار والمستشارون يجدون أن الضباب يمنحهم وظائف أفضل من الوضوح. الخاسر الوحيد هو المواطن الذي يرى أرضه تتحول إلى دفتر ملاحظات إقليمي، وبيوته تتحول إلى هوامش، ومستقبله يتحول إلى ملحق لم يطلبه أصلاً.
أما إذا استمرت الخطوط في التمدد بالطريقة ذاتها، فالنهايات البديلة كثيرة. تثبيت نفوذ جنوبي محسوب وتصعيد قبلي يمكن أن يستيقظ في لحظة خاطئة، أو دخول وساطة إقليمية جديدة تضع الجميع في قاعة الانتظار ريثما يتفقون على هدنة بلا ضمانات.
ما يحدث في حضرموت ليس سوى فصل آخر من تلك الرواية اليمنية التي تكبر دون أن تتقدم، الرواية التي تتبدل فيها الأدوار بينما تبقى القاعدة ثابتة. أرض ثمينة تتقاذفها حسابات ليست محلية، ومجتمع يحاول ألا يتحول إلى مجرد شاهد صامت. ورغم ذلك تبدو حضرموت وكأنها تتصرف بحكمة مدن تعرف أن الصراع لا ينتصر فيه أحد فعلياً، وأن النهاية، مهما تأخرت، لن تكون نصراً كاملاً ولا هزيمة كاملة. وكأنها تهمس للجميع: العبوا كما تشاؤون فالخريطة تعرف كيف تعيد تشكيل نفسها.