صنعاء 19C امطار خفيفة

رائدات في ظروف غير مواتية 11 - سياسات تنمية الرعاية الصحية في اليمن

تتناول المؤلفة في هذا القسم مسار تطور قطاع الرعاية الصحية في اليمن، وتشير إلى تجاهل الطب الشعبي لصالح النموذج الغربي العلاجي. وتوضح كيف أصبح هذا القطاع معتمداً بشكل كبير على المانحين الأجانب الذين روجوا لمفهوم الرعاية الصحية الأولية، مع تحليل التحديات التي واجهت توظيف الكوادر النسائية، وكيف تأثرت السياسات الصحية بالتحولات السياسية المستمرة، بدءاً من الوحدة ووصولاً إلى صعود التيارات المحافظة.


3.3 سياسات تنمية الرعاية الصحية في اليمن

بالإضافة إلى التعليم، تعتبر الرعاية الصحية موضوعا مهما في السياسات العامة في اليمن. كما أشرنا سابقا لم تكن هنالك أية مرافق صحية تذكر في اليمن الشمالي بنهاية الحرب الأهلية عام 1970. كان هنالك عدد من الأطباء الأجانب الذين يعتنون بصحة الإمام[63] وأقربائه بينما عمدت الجماعات المحلية في بعض الأحيان إلى تأسيس عيادات تفتقر إلى الكادر البشري المؤهل. وكانت نسبة وفيات الأطفال والأمهات عالية جدا وكان ذلك - ولا يزال – واحدا من أهم الأسباب التي تركت اليمن في عداد الدول الأقل نمواُ[64].

رئدات في ظروف غير مواتية صورة الغلافتجمع كل التقارير المكتوبة عن الرعاية الصحية في اليمن على النقص الحاد للمرافق الصحية والأوضاع المزرية للمتوفرة منها بالإضافة إلى الافتقار إلى للكوادر البشرية المؤهلة، ويتم دائما تجاهل حقيقة وجود ممارسات رعاية صحية محلية تقليدية (الطب الشعبي).

ومن المؤسف أن البحوث القليلة التي أجريت هذا المجال اقتصرت على دراسة الممارسات والطريقة التي تؤدي بها المرأة وظيفة الرعاية الصحية بأساليب الطب الشعبي. يمكن تقسيم الممارسات الصحية التقليدية (الطب الشعبي) إلى نوعين رئيسيين، النوع الأول يمارسه أشخاص (معالجون) مدربون ويجيدون القراءة والكتابة بالاعتماد على الطب العربي التقليدي هؤلاء عادة ما يكونون من فئة السادة[65] ويحظون بمكانة اجتماعية جيدة. تقوم نساء طبقة السادة أيضا بمداواة الناس بالطرق التقليدية مثل الكي بالنار (لعلاج الخوف والآلام المزمنة) التدليك (لعلاج الروماتيزم والعقم) وكتابة التمائم (Myntti 1979: 64).

أما النوع الثاني من الطب الشعبي فيمارسه أفراد من الطبقات الاجتماعية الأدنى التي تمارس العلاج الطبيعي للصداع والآلام الجسدية الأخرى مثل جبر الكسور والحجامة ويقومون بمداواة الجسد ومعالجة الدم والشعر وخلع الأسنان والكي وهذه الممارسات تصحبها بعض المحرمات لذلك لا يقوم بها إلا أشخاص ينتمون إلى طبقات اجتماعية متدنية[66]. إن النساء اللواتي ولدن أطفالا بأنفسهن ولا يخفن من قطع الحبل السري هن الوحيدات اللواتي يمكنهن أن يولدن نساء أخريات، وإذا لم تكن هنالك امرأة من القريبات تستطيع أن تقوم بقطع الحبل السري يطلب من امرأة أخرى أكبر سنا وذات تجربة أن تساعد في التوليد (cf. Scheepers 1991). وتسمى مثل هذه المرأة بـ "الجدة".

تأسست وزارة الصحة عام 1971 بعد الحرب الأهلية وأصبحت الرعاية الصحية حقا أساسيا لكل المواطنين اليمنيين (Stephen 1992: 208)[67]. وتم تنفيذ برامج ضخمة لترسيخ وتحسين مرافق الرعاية الصحية التي كانت في غالبتها العظمى مرافق صحة علاجية مع جهود حكومية متواصلة لبناء المستشفيات والعيادات وتدريب الكوادر الصحية من أطباء وممرضات[68]. في عام 1972 كان في اليمن 33 مستشفى ومائتي طبيب وتركزت ثلثي المستشفيات و90% من الأطباء في المدن الكبيرة الثلاث صنعاء والحديدة وتعز (Bornstein 1974: 1).

في عام 1972 انضمت مدرسة الممرضات إلى مؤسسة التدريب الصحي التي توفر التدريب للعديد من المهن الصحية (Stephen 1992: 216)[69]. واعتبر العون الأجنبي المالي والفني ضروريا لتطوير الخدمات الطبية وسرعان ما انخرطت العديد من المنظمات الأجنبية المانحة في قطاع الرعاية الصحية في اليمن حيث قدمت المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة الدولية والبنك الدولي واليونيسف إضافة إلى العديد من المنظمات غير الحكومية الأجنبية التي أسهمت جميعا في صياغة سياسات الرعاية الصحية.

وشددت كل هذه المنظمات على أهمية الرعاية الصحية الوقائية لتخفيض معدلات وفيات الأطفال والأمهات. وفي عام 1976 كانت هنالك حوالي أربع وعشرون منظمة تنموية أجنبية ناشطة في اليمن في مجال الرعاية الصحية الوقائية خاصة في مجال تخفيض وفيات الأطفال والأمهات (Hermann 1979: 69)، وأصبح توسيع وتحسين الرعاية الصحية الأساسية أولوية قصوى في البرنامج الصحي الوطني المضمن في خطة التنمية الخمسية لأعوام 1976/77 – 1980/81. تم تأسيس إدارة للرعاية الصحية الأولية في وزارة الصحة العامة عام 1977 وأنشأت ثلاث مستويات لتوفير الرعاية الصحية تتكون من الوحدات الصحية والمراكز الصحية والمستشفيات على أن يتولى كل مستوى توفير الرعاية الصحية لعدد كبير من الناس. وبالرغم من الأولوية التي منحت الرعاية الصحية الأولية على الورق إلا أن ما أنجز على الأرض لتشجيع عمل المرافق الصحية خاصة في المناطق الريفية كان قليلا جدا وبقيت الرعاية الصحية في اليمن علاجية الطابع ومركزة في المدن إلى حد كبير جدا.

كان للمؤتمر الدولي للرعاية الصحية الأولية الذي نظمته منظمة الصحة الدولية في الما آتا عام 1978 آثارا إيجابية على سياسات الرعاية الصحية الأولية في اليمن الشمالي حيث منحت قوة دفع إضافية لمديري البرامج الصحية في اليمن والمنظمات الأجنبية العاملة هناك على حد سواء للاهتمام الذي أولته للتثقيف الصحي ورعاية الأمومة قبل وبعد الولادة والتطعيم وتوزيع موانع الحمل والأدوية كأنشطة أساسية لمكافحة وفيات الطفولة والأمومة وخفض معدلات النمو السكاني.

في عام 1980 أطلقت الحكومة اليمنية أول برنامج للرعاية الصحية بالتعاون مع منظمة الصحة الدولية واليونيسف بهدف توفير خدمات الرعاية الصحية الأولية لسكان المناطق الريفية (Stephen 1992: 208) وكان أهم أنشطة هذا المشروع هي بناء العيادات الصحية وتدريب العاملين في الرعاية الصحية الأولية (المرشدات) من المجتمعات المحلية[70] على أن يكونوا قد أكملوا ست سنوات من التعليم الأساسي لضرورة إجادة القراءة والكتابة في العمل إضافة إلى أن يكونوا قد تجاوزوا الثامنة عشرة من العمر. ونظمت أنشطة التدريب في أقرب مركز صحي تتوفر فيه مرافق التدريب[71]. ولم يكن العمل طوعا بدون مقابل بل اتفق على أن تقتسم المجتمعات المحلية والحكومة اليمنية نفقات التدريب ومرتباتهم.

كانت الغلبة الواضحة للرجال من السمات المميزة للكادر الصحي في اليمنين الجنوبي والشمالي ويعزى ذلك إلى أن قلة عدد النساء الحاصلات على شهادات دراسية تسمح بقبولهن في معاهد ومؤسسات التدريب الصحي في السبعينيات، لكن غلبة الرجال ظلت قائمة حتى بعد تحسن معدلات تعليم النساء وفي عام 1992 على سبيل المثال كان 90% من العاملين في التمريض من الرجال (Stephen 1992: 216). وبالرغم من أن النساء كن منخرطات في ممارسة العلاج التقليدي (الطب الشعبي) كمداويات وقابلات فإن العمل المهني في المجال الطبي لم يكن خيارا مغريا بالنسبة لهن كما يبدو. "يواجه العمل في القطاع مشكلات الأحكام التقليدية المسبقة فبينما يحظى الطبيب أو الطبيبة بمكانة اجتماعية وتقدير عاليين تبقى المكانة الاجتماعية للممرضة والمهن الطبية المساعدة متدنية" (Lackner 1995: 88)[72].

كما واجهت مشروعات الرعاية الصحية الأولية مصاعب في توظيف النساء كعاملات صحيات في المجتمعات المحلية وشكل ذلك عقبة كبيرة لأن تحسين خدمات صحة الأمومة والطفولة كان هو محور هذه المشروعات. تأثرت محاولات توظيف المرشدات بعوامل متعددة منها المكانة الاجتماعية المتدنية للمهن الصحية، تدنى مستوي تعليم البنات والنساء في القرى، الأعباء الثقيلة لعمل المرأة، بالإضافة إلى المفاهيم الثقافية المرتبطة بعمل المرأة المأجور مثل فكرة اعتبار الرجل عائلا وحيدا لأسرته والفصل بين الجنسين. كما أن تنظيم الدورات التدريبية في مدن صغيرة يتعين على المتدربات البقاء فيها لفترة تتراوح بين تسعة أشهر وعام كامل حد من فرص التحاق النساء بهذه الدورات.

تمخض عن ذلك أن أصبحت غالبية العاملين في الرعاية الصحية في المناطق الريفية من الذكور الذين ركزوا جهودهم على التطعيم وبعض الخدمات العلاجية المحدودة وأهملوا خدمات صحة الأمومة والطفولة. لاستيعاب مزيد من النساء غيرت مشروعات الرعاية الصحية في الريف من شروطها وأسقطت شرط إكمال ست سنوات من التعليم الابتدائي[73]، حيث تم تدريب نساء وبنات بتعليم محدود جدا أو بلا تعليم على الإطلاق لكن لم يطلق عليهن اسم مرشدات بل سُمين (دايات شعبيات)[74].

كما تلقت النساء اللواتي كن يعملن كمولدات تقليديات (جدات) تدريبا إضافيا لتطوير مهاراتهن ومعارفهن، وكان ذلك أيضا جزءاً من مقاربة الرعاية الصحية الأولية التي تم صياغتها في الما آتا. كان عدد النساء العاملات كمولدات تقليديات (جدات) قليلا جدا إضافة إلى أن قيام نساء من الطبقات الاجتماعية الدنيا وأميات بمثل بهذا العمل أثر سلبا على صورة ومكانة هذه الوظيفة إذ أن الناس لا يثقون بالخدمات التي تقدمها نساء ذوات مكانة اجتماعية متدنية ويضاف إلى ذلك أن مناهج تدريب القابلات المحليات والمرشدات كان متنوعا إلى حد كبير. بينما كان هنالك برنامج تدريبي موحد على نطاق البلاد للمرشدين (الذكور) كانت مناهج تدريب القابلات والمرشدات متباينا إذ عمل كل مشروع على تطوير البرامج التدريبية الخاصة به. اهتم عاملوا التنمية الأجانب بتدريب النساء كعاملات في مجال الرعاية الصحية بافتراض أن الأوضاع الصحية لن تتحسن إلا بتوفر كوادر صحية نسوية لكنهم على أية حال لم يهتموا بالأسباب التي حدت من انخراط النساء في أعمال الرعاية الصحية.

بالرغم من هذه المعوقات فقد تم تدريب أعداد متزايدة من المرشدات في المناطق الحضرية والريفية على حد سواء بعد أول دفعة تم تدريبها في منتصف الثمانينيات.[75] نظمت الدورات التدريبية ومولت بواسطة مانحين أجانب على أساس ثنائي ومنظمات أجنبية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وأوكسفام. كانت معاهد التدريب الصحي المحلية التي تدرب الكوادر الصحية المساعدة تفتقر القدرة على التدريب والإشراف عليه في المناطق الريفية لذلك ترك أمر تدريب المرشدين والمرشدات لمنظمات التنمية الأجنبية واكتفت بإجازة المنهج وتقييم الدورات التدريبية والتصديق على الشهادات. وبالرغم من أن الرعاية الصحية الأولية كانت من الأولويات المقدمة إلا وزارة الصحة العامة اليمنية لم تتحمل كامل مسؤولياتها في تطويرها وبقيت نشاطات الرعاية الصحية الأولية "شأنا أجنبيا" إلى حد كبير.

بعد الوحدة اليمنية تولى مديرو الصحة القادمون من الجنوب مواقع هامة في وزارة الصحة في صنعاء وبدوا في التأثير على وضع السياسات. كان النظام الصحي في جمهورية الجنوب أكثر اهتماما بالرعاية الصحية الأولية[76] وادخل الجنوبيون مفاهيم واستراتيجيات جديدة حول نظام الرعاية الصحية في اليمن الشمالي. واستجابة للركود الاقتصادي الذي عم البلاد نتيجة لازمة الخليج تم إقرار إستراتيجية سكانية في أغسطس 1991.

وكان تحسين أوضاع المرأة اقتصاديا واجتماعيا محورا رئيسيا لهذه الاستراتيجية القائمة على افتراض أن هنالك علاقة إيجابية بين زيادة فرص حصول النساء على الخدمات التعليمية والصحية، إدماج النساء في سوق العمل، إصلاح قوانين الأسرة والسيطرة على معدلات الخصوبة (Worm 1998: 8). في المصدر السابق ذكره يقدم وورم تحليلا مثيرا للاهتمام حول الجدال الذي دار حول صحة المرأة في اليمن الموحدة.

خلال الفترة الانتقالية دأب حزب الإصلاح على انتقاد الحكومة بسبب تدهور الخدمات الصحية في البلاد، وكانت الشكاوى الرئيسية هي رداءة الخدمات الصحية، سوء الإدارة، إساءة استخدام المال العام، افتقار الكوادر الصحية للحافز، نقص الأدوية الأساسية وسوء الصيانة. واعتبرت المرأة الضحية الرئيسية لتردى خدمات وسياسات الصحة حيث أدى الافتقار إلى الكوادر الصحية النسوية المدربة في المستشفيات والمراكز إلى حرمان المرأة الخدمات الصحية الجيدة. في الحملات الانتخابية عام 1993 وعدت أحزاب المؤتمر والإصلاح والاشتراكي بتحسين نظام الرعاية الصحية في اليمن بتطوير خدمات الرعاية الصحية الأولية في اليمن وتدريب الكوادر الصحية وتشجيع الاستثمار الخاص في قطاع الطب العلاجي.

عندما دخل حزب الإصلاح إلى الائتلاف الحاكم في أبريل 1993 وتولى وزارة الصحة العامة أسفرت الصراعات السياسية بين المديرين ذوي الاتجاهات السياسية المختلفة عن شل الوزارة تدريجيا. بالرغم من هذه الصراعات أصدرت الوزارة عام 1994 وثيقة هامة باسم "السياسات والاستراتيجيات المستقبلية للتنمية الصحية في اليمن" متابعة للاستراتيجية الوطنية للسكان المقرة عام 1991.

وقد وضعت الصحة خاصة صحة المرأة في سياق اجتماعي واقتصادي شامل مع الاعتراف بأهمية ربط الخدمات الصحية بالجهود التنموية الأخرى (مصدر سابق 11). بعد هزيمة الاشتراكيين في الحرب الأهلية عزز حزب الإصلاح قبضته على القطاع الصحي دون إجراء تغييرات كبيرة على السياسات وقد اتبع مديرو الصحة الإصلاحيين نهجا عمليا براغماتيا في الجدال الدولي حول قضايا السكان، الصحة، المرأة والتنمية. شارك اليمن في المؤتمر الدولي حول السكان والتنمية في القاهرة.

في أغسطس 1994، ثم في مؤتمر المرأة الدولي الرابع في بكين وأجازت القرارات والبرامج الختامية للمؤتمرين. أصبحت الصحة الإنجابية موضوع الاهتمام الجديد لوزارة الصحة العامة اليمنية نتيجة للمؤتمر الدولي للسكان والتنمية بدلاً عن التركيز على صحة الأمومة والطفولة[77] كما حان الحال سابقا. يربط مقاربة الصحة الإنجابية موضوعات السكان بتطوير الظروف الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام وللمرأة بشكل خاص. واستبدلت الأهداف السكانية (الديموغرافية) والتركيز على تقديم خدمات تنظيم الأسرة بمقاربة أكثر شمولاً للرعاية الصحية تتضمن تعزيز فرص تعليم المرأة وعملها وحقوقها القانونية.

على الرغم من أن مديري الصحة المنتميين لحزب الإصلاح قد تعاملوا بطريقة عملية في الجدال الدولي حول الصحة إلا أنهم عملوا على توطين مفهوم الصحة الإنجابية الوارد في خطط العمل السكانية والتي تم الاتفاق عليها في عام 1996 ضمن السياق الثقافي والاجتماعي اليمني، وعلى سبيل المثال فقد استبعدوا من تلك الخطة حق الإجهاض وتقديم التثقيف الصحي حول الجنس للمراهقين. كما اتضح نفوذ الإصلاح في وثيقة "موجهات شرعية لتنظيم الأسرة" التي صدرت في نفس العام. واعتُبر توافر موانع الحمل سببا في بعض المشاكل الاجتماعية في اليمن وتم مواصلة التشجيع على الزواج المبكر كوسيلة ناجعة للحفاظ على التماسك الأخلاقي للأفراد والمجتمع (مصدر سابق 15) ومع ذلك لم ينفذ إلا القليل جداً مما اقترحه صانعو السياسة الإصلاحيين فيما يتعلق بتحسين الخدمات الصحية والموجهات المتشددة في موضوع تنظيم الأسرة.

كان التقدم الذي أحرز في الترويج لتدريب النساء في مجال الرعاية الصحية من النجاحات القليلة التي حققها الإداريون الإصلاحيين. يشير وورم (Worm (1998 إلى أن وزير الصحة العامة بنفسه قد دعا الشابات اليمنيات في لقاء صحفي مع جريدة الصحوة في ديسمبر 1994 للانخراط في مهنة التمريض مؤكداً على أن "العمل في هذه المهنة النبيلة ينطبق تماماً مع مقاصد الشريعة الإسلامية" (مصدر سابق 21). وتم تأسيس عدد من كليات التمريض وبرامج قابلات المجتمع في عامي 1995-1996. واستهدف برنامج قابلات المجتمع تدريب 4000 قابلة من النساء الشابات الحاصلات على تسعة أعوام من التعليم الأساسي وعامين من التدريب في الصحة الإنجابية ورعاية الطفولة للعمل في المناطق الريفية[78]. كان البرنامج يقتضي أن توظف وزارة الصحة بعض قابلات المجتمع بينما يحصل الباقيات على دخل بالعمل الخاص في مجتمعاتهم. دعم العديد من المانحين الأجانب برنامج قابلات المجتمع وقدمت الحكومة الهولندية مثلاً تمويلاً لتدريب 1500 من قابلات المجتمع.

بعد الانتخابات البرلمانية عام 1997 تولى منصب وزير الصحة د. عبد الولي ناشر وهو من حزب المؤتمر الشعبي وهو جنوبي تلقى تعليمه في عدن وتمت تحت رعايته إعداد برنامج للرعاية الصحية سمي برنامج "إصلاح القطاع الصحي" وكان برنامجا طموحا يستهدف إعادة تنظيم قطاع الصحة العامة وفقا لتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي[79] . يقول الدكتور عبد الولي ناشر في كتابه "الرعاية الصحية في الدول الأقل نمواً: تجربة اليمن" Health Care in Least Developed Countries: The Experience of Yemen (2000)

"كان نظام الرعاية الصحية الحكومي في أزمة طويلة وممتدة تفاقمت خلال العقد الأخير حيث تسبب نقص التمويل وسوء الإدارة ونموذج صحي لا يلائم الاحتياجات اليمنية مصحوبة بتدهور اقتصادي وطني على النطاق الوطني وتزايد معدلات النمو السكاني تسببت كل هذه العوامل في خلق نظام صحي عاجز عن تلبية احتياجات اليمنيين من الرعاية الصحية" (Nasher 2000: 64).

تمثلت أهم محاور استراتيجيات إصلاح الرعاية الصحية في الآتي: اللامركزية وإعادة تعريف دور القطاع العام ومقاربة تعتمد على إدارة النظام الصحي في المناطق والمشاركة المجتمعية ونظام استعادة التكلفة ونظام الأدوية الأساسية والتعاون عبر القطاعي والانفتاح على كل القطاع في استغلال موارد تمويلات المانحين والبرمجة[80]. وتدعو هذه السياسة أيضاً إلى دور أكثر فعالية لوزارة الصحة العامة في تنسيق مساعدات المانحين الأجانب. ومع ذلك فان مخصصات الرعاية الصحية من الموازنة العامة للدولة لم تتجاوز 4% [81] مقارنة بـ 20% للتعليم و22% للدفاع (Al-Dubai 2000: 6)، ويوضح هذا جلياً تدني أولوية الرعاية الصحية في الأنفاق الحكومي اليمني بالرغم من الجهود الحثيثة لبعض الأفراد.

باختصار توضح الكيفية التي تطورت بها برامج الرعاية الصحية في اليمن خصائص سياسات التنمية اليمنية. حيث يبقى تطوير الرعاية الصحية دائماً من الأولويات على الورق فيما لا يخصص لها إلا نسبة ضئيلة من الموازنة الحكومية عملياً. وتستخدم معظم الموارد الحكومية في إنشاء البنيات الأساسية وشراء التكنولوجيا المتقدمة بينما يترك قطاع الرعاية الصحية الأولية للمانحين الأجانب إلى حد كبير ويمكن ترجمة الدعم الحكومي اليمني للرعاية الصحية الأولية بأنها مجرد خدمات شفهية للمانحين الأجانب وتماماً مثل الرعاية الصحية يلعب الجندر دوراً هاماً في سياسات التنمية وقد استخدمت الحكومة اليمنية المرأة كمؤشر للتنمية والتحديث وهنا أيضاً وبالرغم من الترويج اللفظي لتعليم المرأة وعملها لم ينجز إلا القليل لتحسين وتهيئة الظروف لتعليم المرأة وتسهيل دخولها إلى سوق العمل ويرجع قلة عدد النساء الراغبات في العمل في مجال الرعاية الصحية مثل التمريض إلى الاهتمام القليل جداً بوضع المرأة العاملة. إلا أن أعداد النساء الراغبات في الحصول على عمل في القطاع الصحي تزايدت مؤخراً بسبب من الركود الاقتصادي الذي تعانيه اليمن.

ℹ️

عن المؤلفة

الدكتورة مارينا دي ريخت هي باحثة وأنثروبولوجية هولندية متخصصة في قضايا النوع الاجتماعي، والعمل، والهجرة في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، مع تركيز خاص وعميق على اليمن. بدأت علاقتها باليمن في أوائل التسعينيات، حيث عملت لسنوات في مشاريع تنموية بمدينة الحديدة، وهو ما أتاح لها فهماً ميدانياً وشخصياً للسياق الاجتماعي والثقافي.لأغراض التحليل.
*

مراجع وهوامش

[63] للمزيد حول الأطباء الأجانب الذين عملوا في اليمن في عهد الإمامة راجع فايان وهوك Fayein (1955) and Hoeck (1962).

[64] في عام 1970 كانت نسبة وفيات الأطفال 177 حالة بين كل ألف طفل يولد حيا وكانت معدل وفاة الأطفال قبل بلوغ الخامسة من العمر 293 من كل ألف طفل (UNICEF 1993). انخفضت هذه النسب إلى 83 و110 عام 1998 وهو تحسن كبير ويقل عن معدل الدول المسماة الدول الأقل نموا، لكنها تظل معدلا مرتفعة جدا إذا ما قورنت بمعدلات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (UNICEF 1998: 19). معدلات وفيات الأمهات المتصلة بالولادة يصعب تقديرها لان وفيات النساء لا تسجل، على أية حال فإن وزارة الصحة العامة اليمنية تقدرها ب ألف حالة في كل مليون ولادة لكن اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية تقدمان تقديرا أعلى بكثير يصل إلى 1400 حالة وفاة مما يجعل معدل وفيات النساء ذات الصلة بالولادة واحدة من أعلى المعدلات في العالم ((مصدر سابق 30).

[65] السادة ومفردها سيد هم النخبة أو الأرستقراطية الدينية الذين يستمدون سلطتهم على انتسابهم المباشر لآل البيت النبوي. يسود اليمن نظام من التراتب الاجتماعي يؤثر بقوة على العلاقات الاجتماعية ونوع العمل الذي يمارسه الأفراد. وفقا لهذا النظام يمكن تقسيم اليمنيين إلى خمس مجموعات متراتبة على مفاهيم الأصل العائلي ويتم المحافظة عليه بالزواج ضمن نفس المجموعة (Carapico 1996: 81) المجموعة الأولي هي مجموعة أو فئة السادة الذين يستمدون سلطتهم من الانتساب إلى البيت النبوي. وتشكل عائلات القضاة المجموعة الثانية. أما المجوعة الثالثة فهي القبائل ومفردها قبيلي وهم مزارعون بالدرجة الأولى. المجوعة الرابعة تضم الذين لا يملكون أرضا وتكسب رزقها بالعمل اليدوي وتقديم الخدمات وهذه المجموعة يتغير اسمها بتغير الأماكن مثل المزاينة ومفردها مزايني والنُقص وبني الخمس والبياعين والعنادل. وتأتي في أسفل السلم مجموعتا العبيد والاخدام وهما مجوعتين عرقيتين متميزتين تنحدران من سلالات أفريقية وعربية تعود لعدة قرون في الماضي. العبيد هم الأرقاء السابقون وأبنائهم بينما كان الاخدام فئة منبوذة (cf. Walters 1987).. وبالرغم من أن التراتب والامتيازات السلالية قد ألغيت رسميا بموجب دستور 1970 إلا أنها لازالت قائمة في العديد من مناطق اليمن (cf. Bujra 1971; Gerholm 1977; Stevenson 1985; Dresch 1993).

[66] مثل سائر بلدان العالم تسود في اليمن معتقدات معينة حول سوائل الجسد الإنساني ذات صلة بمفاهيم الطهارة والنجاسة وغالبا ما استخدمت هذه المفاهيم لتفسير المكانة الاجتماعية المتدنية أو الغامضة للذين يمارسون بعض المهن (دوقلاس 1966؛ يانسن 1987).

[67] تم تغيير اسمها فيما بعد إلى وزارة الصحة العامة

[68] وفقا لدراسة هيرمان كان في اليمن ستة أطباء فقط متخصصين في الصحة العامة عام 1976 Hermann (1979: 59)

[69] يقدم معهد التدريب الصحي ثلاثة سنوات من التدريب للممرضات والقابلات والمساعدين الطبيين ومساعدي الصيادلة وفنني الصحة وفنيي المعامل الطبية، والأشعة والتخدير. ويقبل المعهد طلابه بعد إكمال المدرسة الإعدادية أي تسع سنوات من التعليم.

[70] عمليا كان ذلك يعني دائما أن يختار شيخ القرية من يراهم مناسبين من الرجال والنساء

[71]في البداية كانت فترة تدريب العاملين في الرعاية الصحية الأولية ستة أشهر ثم عدلت إلى تسعة أشهر. بما أن العديد من المنظمات المانحة الأجنبية قد مولت ونظمت الدورات التدريبية فلم تكن فترة التدريب ولا محتواها وطريقة تنظيمها موحدة.

[72] يُنظر بدونية إلى مهنة التمريض في العديد من لدول العالم وربما يكون ذلك بسبب التراتب القائم بين الرعاية والعلاج (cf. Douglas 1966; Jansen 1987)

[73] يصف موريس Morris (1991:118) فيما كتبه عن تجربته في مشروع للرعاية الصحية الأولية في اليمن بحيوية وسخرية المصاعب التي واجهها المشروع لتوظيف نساء راغبات وقادرات على التدرب ليصبحن قابلات صحيات.

[74] ادخل اسم دايه بواسطة القابلات السودانيات اللواتي كن يدربن اليمنيات.

[75] بدأ تدريب المرشدات في عشر محافظات عام 1983 برعاية منظمة الصحة العالمية حيث تم توظيف فريق من القابلات السودانيات كمدربات ومشرفات وقد استخدم في البداية منهج سوداني تضمن أيضا فصولا لمحو الأمية لأن العديد من المتدربات كن أميات. فيما بعد تم تصميم منهج يمني لم يقر إلا في عام 1996.

[76] في اليمن الجنوبي (سابقا) كان نظام الرعاية الصحية الأولية قد بدأ العمل به قبل عام 1978، لكنها شهدت تغيرا نوعيا بعد مؤتمر آلما آتا بالتحول من البرامج الصحية الرأسية إلى برامج رعاية صحية أولية اكثر شمولا مثل خدمات رعاية الأمومة والطفولة والصحة البيئية وتوفير مياه الشرب النظيفة كما اصبح التثقيف والإرشاد الصحي جزءا أساسيا من منهج الرعاية الصحية الأولية (ٍSegal and Williams 1983) وقد تم تشجيع الأطباء على التخصص في الصحة العامة وطب المجتمع وتم تأسيس فريق متخصص ومتفرغ لإنشاء نظام جيد للرعاية الصحية الأولية. لكن هذا النظام كان قد تحطم تماما عقب الحرب الأهلية في اليمن الجنوبي عام 1986.

[77] في أبريل عام 2001 عدل اسم وزارة الصحة العامة إلى وزارة الصحة العامة والشئون السكانية (Martin 13: 2000). وكان قسم صحة الأمومة والطفولة قد غير سابقا إلى قسم الصحة الإنجابية.

[78]من الأسباب الإضافية أن يعمل الشابات اليمنيات في البرنامج كناشطات لكسب الدعم لحزب الإصلاح في المجتمعات الريفية (لقاء شخصي مع فرست مولر Frits Muller أبريل 2000)

[79] برنامج إصلاح القطاع الصحي فرض على العديد من الدول النامية الأخرى أيضاً لإحداث تغيير جذري في القطاع الصحي لجعله أكثر كفاءة وفعالية ومساواة انظر كاسلز) Cassels 1995).

[80] في أواخر التسعينيات تم تبني ما يسمى بالمقاربة المنفتحة على كل القطاع بإيعاز من البنك الدولي أيضا. وترتكز المقاربة المنفتحة على كل القطاع على أن يدعم المانحين الأجانب حكومات الدول النامية في الأنشطة التي تستهدف إصلاح القطاع العام على أن يترك التنفيذ لهذه الأنشطة للحكومات الوطنية بهدف تعزيز الشعور بالملكية لهذه الأنشطة والحد من سلطة المنظمات المانحة لضمان استدامة الأنشطة التنموية.               

[81] يستخدم 81% من موازنة الرعاية الصحية لدفع الأجور والمرتبات ويبقى القليل جداً للإنفاق على المرافق الصحية نفسها (Al-Dubai 2000: 7)

الكلمات الدلالية