صنعاء 19C امطار خفيفة

الفصل الثاني: المرأة، العمل في الرعاية الصحية وسياسات التنمية

رائدات في ظروف غير مواتية 5 - مشروعان للحداثة

تضع المؤلفة في هذا الفصل الإطار النظري والتحليلي للكتاب بأكمله، حيث ينتقل من السرد الشخصي إلى النقاش الأكاديمي العميق. تبدأ المؤلفة برسم مقارنة ذكية بين مشروع المرشدات الصحيات في اليمن في أواخر القرن العشرين، ومشروع "مدرسة القابلات" في مصر في القرن التاسع عشر، لتوضح أن مشاريع التنمية التي تستهدف النساء ليست مجرد مبادرات خيرية، بل هي "مواقع اصطدام" تتلاقى فيها خطابات مختلفة حول الحداثة، وسلطة الدولة، وأدوار النوع الاجتماعي. ومن خلال استعراض نقدي لأدبيات التنمية، وسياسات الرعاية الصحية، والدراسات النسوية، يفكك الفصل المفاهيم السائدة، ويؤسس للمنهجية التي سيتبعها الكتاب في تحليل تجربة المرشدات، ليس فقط كمتلقيات للتنمية، بل كأطراف فاعلة تتفاوض مع هذه الخطابات وتشكل مساراتها الخاصة.


2.1 مشروعان للحداثة

في عام 1832 افتتحت في مصر المدرسة الأولى لتدريب القابلات التي أسسها الطبيب الفرنسي انتوني بارثليمي كلوت بطلب من محمد على باشا خديوي مصر في ذلك الوقت، وقد بدأ ارتباط الأوربيين بالرعاية الصحية في مصر في وقت أبكر من ذلك بقليل في أوائل القرن التاسع عشر عندما استعانت مصر بأطباء أوربيين لتنفيذ نظام حجر صحي بحري لمواجهة تفشي الكوليرا والطاعون (Kuhnke 1990:2). يعتبر كلوت من أهم الأوربيين الذين أسهموا في إدخال الطب الغربي إلى مصر حين بدأ بتأسيس مدرسة طبية ملحقة بمستشفى على الطراز الغربي ثم أسس مدرسة القابلات عام 1832.

كان التدريب في مدرسة القابلات يستغرق ستة سنوات خُصصت السنتان الأولى والثانية منهما لتعليم القراءة والكتابة باللغة العربية تعقبها أربع سنوات من التدريب تتضمن التوليد ورعاية الأمومة قبل وبعد الولادة، العناية بالجروح، التطعيم ضد الأمراض وتحديد وتحضير معظم الأدوية العامة.

كانت الحكيمات[27] اللواتي تدربن في هذه المدرسة موظفات لدى الحكومة وكن يسكن ويعشن ويلبسن ويتدربن على نفقة الدولة ويعملن في أقسام الولادة في المستشفيات العسكرية والمدنية في القاهرة. تولت الحكيمات تدريجيا مزيدا من المهام مثل تحصين الأطفال ضد الجدري، وفحص النساء في المحاجر الصحية والفحص على حالات وفيات النساء في القاهرة أولا ثم في بقية البلاد لاحقا. ولم يكن من اليسير العثور على نساء راغبات في الالتحاق بمهنة الحكيمة المثيرة للجدل لكن المدرسة ظلت فاعلة على أية حال ضمن النظام الصحي العام في مصر حتى منتصف القرن العشرين. (Tucker 1985: 120; Kuhnke 199: 132).

اجتذبت مدرسة القابلات اهتمام الرحالة والمؤرخين الأوربيين منذ البداية، لأنها وفرت للنساء فرصة التدريب كقابلات في وقت لم تكن تتوفر فيه إلا فرص جد ضئيلة لتعليم النساء في مصر وكان عدد النساء العاملات لدى الدولة لا يكاد يذكر. ووفقا لكونكا (199) Kuhnke الذي درس إدخال نظرية وتنظيم الطب الأوربي في مصر.

احتلت مدرسة القابلات مكانة متميزة لسببين رئيسيين "لأنها كانت المؤسسة التعليمية الأولى المخصصة للنساء في الشرق الأوسط كما أنها كانت غير مسبوقة بإدخالها مجموعة من النساء الى الخدمة الاجتماعية كان يبدو أنهن مستبعدات من الأنشطة العامة أكثر من أي مكان آخر في العالم" (مصدر سابق 122). ويضيف كونكا أن توظيف الحكيمات كان ذا أهمية مزدوجة بسبب السياق العسكري الذي مارسن فيه مهامهن حيث إنهن كن موظفات في وزارة الحربية وخاضعات للنظم العسكرية (مصدر سابق 125). وقد اندهش الرحالة والمؤرخون الأوربيون لرؤية نساء مصريات يعملن في منشأة صحية حديثة بدون غطاء للوجه وعزوا هذه الظاهرة الهامة للطابع التنويري لنظام الخديوي محمد على وكانت مدرسة القابلات في نظرهم خطوة هامة في طريق الحداثة وتنائياً عن العادات والمعتقدات القروسطية.

في مقالته المعنونة "المرأة والطب والسلطة في مصر القرن الحادي عشر" يلقى خالد فهمي (1999) Khaled Fahmi نظرة فاحصة على مدرسة القابلات ويفكك صورتها كنموذج لتنمية وتحرر المرأة المصرية ويحاجج بأن المدرسة كانت "نقطة اصطدام" دارت فيها معارك متعددة حول الحداثة والعلم (مصدر سابق 37). ويكشف فهمي النقاب عن هذه المعارك بتحليل لأهداف المدرسة وخلفية النساء الشابات اللواتي التحقن بها ومكانة القابلات اللواتي تخرجن منها، ووفقا لفهمي فإن أهم أهداف المدرسة تتلخص في خلق مناخ صحي للجيش لان مخاطر الجدري والزهري كانت تهدد استمرار التجنيد للجيش.

وكان التعليم وتحرير المرأة مجرد ناتجين عرضيين للمدرسة، علاوة على أن صعوبة العثور على نساء راغبات وقادرات على اتباع البرنامج التدريبي الشاق والصارم والمطول أسفر عن إلحاق بنات ذوات أصول اجتماعية متدنية مثل بنات الأرقاء واليتيمات والمشردات بالمدرسة وإضافة لذلك فقد احتلت الحكيمات أسفل السلم الإداري في المؤسسة الصحية التي أنشأت حديثا والتي احتل فيها الإداريون المحليون والأجانب مكانة أعلى منهن وكانت الحكيمات أضعف حلقات هذه السلسلة (مصدر سابق 59). يخلص فهمي إلي انه بالرغم من استفادة الحكيمات بفعالية من فرص التمكين التي أتيحت لهن فإن الدولة أيضا استخدمتهن كوسائط للضبط والسيطرة (مصدر سابق 63)[28].

كان تحليل فهمي لمدرسة القابلات كـ "مشروع للحداثة" مصدر إلهام بالنسبة لي في تحليلي لمشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة حيث كان ينظر للمشروع كإحدى المحاولات الأكثر نجاحا لتحسين الرعاية الصحية الأولية في اليمن وكان لتدريب وتوظيف أعداد كبيرة من النساء الشابات في المشروع إسهاما واضحا في رسم صورة المشروع الناجح. كما كان المشروع جهدا مشتركا لأوربيين مع السلطات المحلية في وضع يحتل فيه الأوربيون المواقع الإدارية الأكثر تأثيراً.

وعند تفحص لشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة بعمق يتبين أن المشروع يمكن أيضا اعتباره "موقعا للاصطدام" إذ كان المشروع يستهدف بالدرجة الأولى تحسين خدمات الرعاية الصحية الأولية وفقا للمفهوم الغربي للرعاية الصحية، وثانياً اعتبرت المنظمة الهولندية المانحة تدريب وتوظيف النساء (المرشدات الصحيات) أجراءً ذي طابع تحرري بخروج النساء من منازلهن والتحاقهن بالعمل المأجور. هذه الآراء الخارجية عن الرعاية الصحية والنساء لابد أن تتم ترجمتها وتداولها والتفاوض حولها مع السلطات المحلية والنساء المعنيات.

ومن أوجه الشبه اللافتة للنظر انه لم تبذل إلا عناية طفيفة بخلفية الشابات اللواتي تم تدريبهن كمرشدات في مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة وكيفية تأثير هذه الخلفية على مكانة مهنة المرشدة. وبطريقة مماثلة تضمنت واجبات المرشدات عناصر تحدت الحدود الجندرية التقليدية مثل الزيارات المنزلية لعائلات لا تربطهن بها صلة وأخيرا فإن المرشدات مثل الحكيمات كن في أسفل الهرم الإداري للمؤسسة الصحية في اليمن يعلوهن تراتب من خليط من الإداريين المحليين والأجانب.

استفادت المرشدات كثيرا من الفرص التي قدمت لهن على شكل تدريب وفرص عمل لكن ذلك قد ولّد أيضا أشكالا جديدة من الضبط الاجتماعي، ففي الوقت الذي اعتبرت فيه المرشدات رائدات تجاوزن الحدود الجندرية المألوفة بدخولهن إلى حقل جديد من العمل المأجور، فإنني ابحث أيضا عما إذا كن مجرد أدوات (قطع شطرنج) استخدمت بواسطة السلطات اليمنية والأوربية لتحقيق اجندتها الخاصة. علاوة على أن الدخول إلى حقل الوظيفة الجديدة ربما ينجم عنه أشكال جديدة من الضبط الذاتي في الوقت الذي قد يمارس أفراد الأسرة أيضا أشكالا جديدة من الضبط الاجتماعي. وبطريقة مماثلة لتلك التي اتبعها فهمي، سأحلل مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة بتفحص خلفيات المرشدات وشروط تدريبهن وتوظيفهن، خبراتهن ومشاكلهن وفوق ذلك كله رأيهن في دورهن في المشروع (1998: 37Fahmi). لكن في الوقت الذي اعتمد فيه فهمي على الأرشيف في تحليله تمكنت أنا من لقاء المرشدات وإجراء المقابلات معهن أثناء عملي في المشروع.

تلعب قصص المرشدات دورا محوريا في تحليل "مشروع الحداثة" هذا، لكن قبل تقديم قصصهن وتحليل المشروع سأناقش أولا المفاهيم النظرية الرئيسية والنقاشات ذات الصلة ببحثي.

ℹ️

عن المؤلفة

الدكتورة مارينا دي ريخت هي باحثة وأنثروبولوجية هولندية متخصصة في قضايا النوع الاجتماعي، والعمل، والهجرة في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، مع تركيز خاص وعميق على اليمن. بدأت علاقتها باليمن في أوائل التسعينيات، حيث عملت لسنوات في مشاريع تنموية بمدينة الحديدة، وهو ما أتاح لها فهماً ميدانياً وشخصياً للسياق الاجتماعي والثقافي.
*

هوامش ومراجع

[27] بالرغم من أن معظم الدراسات تطلق عليهن اسم "الدايات، مفردها دايه" وهو الاسم التقليدي للقابلات إلا أن كونكا يفضل أن يسميهن الحكيمات (مؤنث حكيم) لتمييزهن عن القابلات التقليديات غير المدربات (Kuhnke 1990: 123).

[28] بالرغم من أن فهمي لا يشير إلى فوكو فإن تحليله لمدرسة القابلات يستلهم بوضوح أفكار فوكو في كتابه "ميلاد العيادة؛ اركيولوجيا المفهوم الطبي" (1975).

في الحلقة القادمة: خطابات التنمية 2-2

الكلمات الدلالية