السودان كرواية ناقصة
ما إن رفعت الدولة في السودان راية الغياب قبل سنوات، حتى تقدمت الميليشيات لملء الفراغ بثقةِ من يعتقد أنه قادر على إدارة بلدٍ كامل لأنه نجح يوماً في إدارة نقطة تفتيش.
من رحم الانهيار خرجت جماعة اسمها "الجنجويد"، اسم لا يعرف أحد هل هو مصطلح عسكري أم نكتة سيئة التسويق. البعض اعتبروه اختراعاً صوتياً يصلح كاسم فرقةٍ غنائيةٍ شعبيةٍ لو لم يكن مغمساً بالدم.
لم يكن الاسم يهم كثيراً، المهم أن البندقية كانت تعمل بكفاءة. الحكومة كانت بحاجة إلى "ذراعٍ طويلة" تضرب نيابةً عنها، فصنعت ذراعاً أطول مما توقعت، أسمتها "الدعم السريع"، فتحولت اليد المرتزقة إلى صاحب البيت؟
في مطلع الألفية، ومع اشتعال دارفور، قررت الحكومة أن تستعين بالقبائل العربية هناك لتوفير خدمة التوصيل السريع للعنف، بينما تُلقي على القبائل الأفريقية تهمة التمرد كأنها مخالفة مرورية.
تحول الإقليم إلى صراعٍ يخلط الهوية بالماء، ويخلط المواشي بالسياسة، ويحول فكرة المواطنة إلى نكتةٍ لا تضحك أحداً. لم يعد الصراع سياسياً، بل أصبح منافسةً على الهوية نفسها. قبائل عربية في مواجهة قبائل أفريقية، والجميع في مواجهة الدولة، والدولة في مواجهة ضعفها.
ثم ظهر الرجل الذي يعرفه الجميع ولا يفهمه أحد: "حميدتي". تاجر ماشيةٍ اكتشف أن بيع الولاء أكثر ربحاً من بيع الإبل. لم يحتج إلى قراءة كتب نظرية السياسة، كل ما احتاجه هو أن يقول للبشير: "أرسل المال أو أوقف القتال".
فأرسل البشير المال، وأرسل معه الرتب العسكرية صعوداً من عميدٍ حتى فريقٍ أول، وكأن الدولة ترقيه مقابل كل كيلومترٍ يبتلعه من دارفور.
حصلت قواته على موارد تجعل أي دولةٍ محترمةٍ تشعر بالغيرة: أموال حرب اليمن، ذهب جبل عامر، تجارة ظل لا تُكتب في الموازنة، وطرق تهريبٍ لو وُضعت على خريطة لبدت كشبكة كهرباء دولةٍ موازية.
وبينما كان الجيش ينتظر اعتماد وزارة المالية، كانت قوات حميدتي تشتري ولاءاتٍ جديدةً نقداً. ولذلك لم يكن مفاجئاً أن تتحول هذه القوات إلى كيانٍ سياسي ـ عسكري ـ تجاري، بمؤسساتها وشركاتها وواجهاتها الإعلامية، وجيشها الذي يملك أكثر مما يملك الجيش الرسمي.
حميدتي ليس مفكراً ولا زعيماً ثورياً، لكنه بارع في تسويق نفسه على كل الواجهات. يقدم نفسه لأوروبا كحارسٍ للحدود ضد المهاجرين، ولروسيا كتاجر ذهب، وللإمارات كمحاربٍ للإخوان، ولإسرائيل كشريكٍ يحب الاستقرار، وللولايات المتحدة كبديلٍ عن البدائل الفاشلة.
كان وفياً لابن عمه موسى هلال، زعيم "الجنجويد"، لولا أنه أطاح به. وكان وفياً للبشير حتى سلمه ورقة الطلاق. وكان شريك البرهان إلى أن قرر تغيير الشريك. رجلٌ إذا صافحك بيده اليمنى فافحص يسراه جيداً.
ومع الحرب التي أكلت نصف السودان، تبدو دارفور وكأنها تختبر نسخةً جديدةً من نفسها، نسخةً أكثر فوضى، وأكثر سلاحاً، وأكثر اقتناعاً بأن المركز مجرد شائعةٍ قديمة. الفاشر التي كانت عاصمةً وإرثاً وتاريخاً، أصبحت عنواناً للخراب الذي يُعاد إنتاجه كل صباح بلمساتٍ فنيةٍ من الطرفين.
ما يحدث الآن ليس أزمةً أمنية، ولا تمرداً جديداً، بل صراعٌ على تعريف الدولة نفسها. كلما سقطت مدينة، تمددت الميليشيا أكثر، وكلما تقلص نفوذ الجيش، ازدادت شهية قوات الدعم السريع لابتلاع ما تبقى من السودان.
ليس مشهداً عابراً من تاريخ أفريقيا، بل مسارٌ طويلٌ يخبرنا بأن الدولة حين تفرّط في احتكار السلاح، سيأتي من يحتكره بدلاً عنها. وحين تسكت عن الميليشيا، ستصحو على كيانٍ ينازعها على حدودها وذهبها وتاريخها وروايتها، بل وربما على اسمها نفسه.
الكارثة في السودان ليست في وجود ميليشيا قوية، بل في دولةٍ أضعف من أن تغار. بلدٌ كان يستطيع أن ينهار مرةً واحدة بشكلٍ مشرف، لكنه اختار أن ينهار بالتقسيط وبخصوماتٍ موسمية.