صنعاء 19C امطار خفيفة

ردٌّ على مقال الدكتور عبده يحيى الدباني: الهوية اليمنية ليست فرضًا بل وجدانٌ جمعي

أثار مقال الدكتور عبده يحيى الدباني المعنون بـ «تفكيك الخطاب الفتاحي: عبارة (يا جماهير شعبنا اليمني) نموذجًا» نقاشًا واسعًا حول مسألة الهوية اليمنية في الخطاب السياسي لمرحلة ما بعد الاستقلال في الجنوب، حيث رأى الكاتب أن عبدالفتاح إسماعيل كرّس ما وصفه بـ “فرض اليمننة على الجنوب”. وهي رؤية تستحق التوقف عندها لما تحمله من تبسيطٍ لتاريخٍ مركّب، ولأنها تغفل السياق الذي وُلدت فيه فكرة اليمن الكبير في الوعي الجنوبي قبل أن تتحول إلى شعارٍ سياسي.

فالحقيقة أن عبارة عبدالفتاح الشهيرة التي كان يستهل بها خطاباته « يا أبناء شعبنا اليمني العظيم» لم تكن مقولةً فردية أو اجتهادًا أيديولوجيًا خاصًا به، بل كانت تعبيرًا عن روحٍ عامةٍ سادت بين قادة الجنوب وشعبه في مرحلة الكفاح والنهوض الوطني. لم يكن عبدالفتاح وحده من يرددها، بل كانت تتردد على ألسنة معظم القادة من قحطان الشعبي مرورًا بسالم ربيع علي، وعلي ناصر محمد، وعلي عنتر، وصولًا إلى علي سالم البيض.
لقد كان أبناء الجنوب يفخرون بيمنيتهم، ويقسم طلاب المدارس في صباحاتهم على تحقيق الوحدة اليمنية. لم تكن الهوية اليمنية يومها قضية جدل أو خلاف، ولم يختلف حولها اثنان، حتى القوى السياسية التي كانت تعارض النظام في الجنوب لم تقل يومًا إنها ليست يمنية أو أن عبدالفتاح هو من فرض “اليمننة” على الجنوب.
كانت الهوية اليمنية آنذاك و ما زالت وجدانًا مشتركًا وإيمانًا عميقًا بوحدة الأرض والإنسان، صنعه اليمنيون في الجنوب والشمال معًا في مراحل العزّة والنضال. كانت عدن، المدينة التي احتضنت الأحرار من كل أنحاء اليمن، منطلقًا لفكرة التحرر الوطني والوحدة، وكانت شوارعها تردد أناشيد الثورة التي لم تميّز بين جنوبي وشمالي.
إن تصوير “الهوية اليمنية” وكأنها فكرة دخيلة فُرضت بالقوة على الجنوب، فيه انتقاصٌ من وعي جيلٍ كامل ناضل من أجل استقلال الجنوب وبناء دولته، وهو الجيل ذاته الذي كان يرى في الهوية اليمنية بأنها هوية جامعة لا نقيضًا لجنوبيّته. تلك الهوية لم تكن شعارًا سياسيًا بقدر ما كانت إحساسًا بالانتماء إلى تاريخٍ واحدٍ وجغرافيا واحدة، تمتد من صعدة حتى المهرة، ومن تهامة حتى سقطرى.
وحتى لو تقسمت اليمن — لا قدّر الله — إلى ستين دولة، فسيظل الشعب في هذه البقعة الجغرافية يمنياً، وإن تعددت أسماء الدويلات وتغيّرت الرايات. فالهوية اليمنية ليست قرارًا سياسيًا يُسن أو يُلغى، بل شعورٌ أصيل يسكن الإنسان قبل أن يسكن الخرائط.
صحيح أن ما حدث بعد الوحدة من صراعاتٍ وانقساماتٍ شوّه الصورة وأثقل الذاكرة، لكن ذلك لا يعني أن الفكرة في أصلها كانت خطأ أو أن من حملوها كانوا مخدوعين. فالمشكلات التي لحقت بالوحدة جاءت من سوء الممارسة لا من جوهر الفكرة ذاتها. وكما أن الفشل في إدارة الدولة لا يلغي شرعية الدولة، كذلك لا ينبغي أن تُحمّل الهوية اليمنية وزر ما ارتكبه السياسيون باسمها.
لقد كان اليمنيون — في الجنوب والشمال — شركاء في صناعة مراحل النهوض الوطني، وشركاء أيضًا في محطات الخذلان. والوعي الحقيقي يبدأ حين نقرأ التاريخ بإنصاف، لا حين نعيد تقسيمه بخطوطٍ جديدة تُرضي الأهواء. فالهوية اليمنية لم تكن مؤامرة سياسية، بل كانت وما زالت انتماءً أصيلًا ضاربًا في جذور الأرض والوجدان، لا تصنعه الأنظمة ولا تمحوه التقلبات.

الكلمات الدلالية