هلال ذبحان حرف أضاء ثم احترق

لوحة خطية كتبها هلال ذبحان
لوحة خطية من صورة سجلت ما تبقى من الذاكرة لفنان مغمور قبل أن يرتدي لون النار جسده منهيًا حياته وشبابه وسط أفراح أبناء قريته بالعيد وهي تتزيا بأزيائه وألوان فرائحه، لوحة استديو الربيع بصنعاء من سبعينيات القرن الماضي، بريشة الفنان الخطاط (هلال) محمد نعمان علي الفحل الذبحاني، عندما كان جمال خطه الأخاذ يخطف البصر.
لقد كان يتربع على عرش الخط والخطاطين في صنعاء، بل هو وحيدها، وكانت كل أعمال المدينة والوزارات والمؤسسات تحتشد في زحام محله الصغير وخارجه على الأرصفة، وهو يتنقل عليها كنحلة عندما تقوم في هندسة وتسديس بيوتها، كان محله بشارع البونية، خلف شارع جمال، فقصة موته مؤلمة، حزينة، كئيبة على أنفس الناس ومحبيه ومجايليه وعشاق فنه وخطه ومن رثاه من الأدباء والصحفيين، حين تحول يوم فرحهم بالعيد ليوم تراجيدي وحزن ومأتم بتناقض وتضاد درامي، يوم فرح الناس بالعيد أضرم بجسده النار، وخرج بجلده المتناثر يدور به في وقت صلاة العيد عام 1981م، رحمة الله تغشاه، طيب الله ثراه، وبمحاسن الذكر ذكراه، فالانتحار يعتبر قرارًا فرديًا ذاتيًا من حيث الشكل، لكنه في مضمونه اجتماعي عام، كان الألم أعمق وأشمل.
لم يكن خطاطًا فقط، بل كان مثقفًا ورسامًا ومصممًا، وتظهر مباشرية كتابته الخطية بالطلاء على الألواح الخشبية والبلاستيكية آنذاك، تشهد به هذه اللوحة المتبقية، وما يظهر بجانبها لوحة لخطاط آخر من جيل التسعينيات، تعكس الانحدار الفني للخط وما وصل إليه بعد أكثر من عشرين سنة بالمقارنة مع اللوحة الفنية لوحة هلال التي بجانبها، والتي يظهر خطاطها متأثرًا بالخطوط (المُكرشة) للكمبيوتر في كتابة اسمه.

فمن هو هلال؟ وبمن تأثر؟ محمد نعمان علي الفحل (الخطاط الشهير باسم هلال) من مواليد قرية الصيرة ذبحان، والده كان يعمل بما يسمى "الطَّبَل" بتشديد الطاء وفتح الباء (المراسل وساعي بريد آنذاك)، وكان المشهور بالتنقل السريع لكثرة سفره بالطرق إلى عدن. بين عدن والقرية عاش محمد نعمان علي الفحل، وكان والده بسيطًا ومستور الحال، يفترش أحيانًا مع والده رصيف مدينة التربة في بيع أشياء صغيرة على مفرشة لا تتجاوز المترين، وكان وحيده محمد يشاطره المكان، ويكتب بقصاصات من كراتين وورق عبارات تنم عن تبلور ثقافة من الحكم والأقوال المأثورة، وكان يدرس في الابتدائية والمعلامة على يد فقيه قريته أحمد علوان الذبحاني، والد الشاعر والأديب والناقد عبدالله علوان، واللذين لم يكملا دراستيهما الإعدادية، ولكنهما فاقا من أكمل.
وكان الأستاذ القدير أحمد عبدالهادي الرفاعي، أستاذًا قديرًا ومتمكنًا في قرية الصيرة، يجمع بين التعليم الحديث والمعلامة (الكتاتيب)، الذي كان مغتربًا بالحبشة، وعاد لتعليم الأجيال، وكان يتمتع ويمتع الطلاب بخطه الجميل وفي رسمه بالطباشير للحيوانات ببراعة ودقة مثلًا كرسم الخيل في أوضاع مختلفة، وله من الحكمة والشعر والنثر، وكان خطيبًا مفوهًا بالمسجد، بل تحضره
النكتة التي لا تفارقه في شد الطلاب لدرسه، وكان أسلوبه الراقي في التعليم والاهتمام بطلابه منقطع النظير، فكان هلال وغيره ممن يفترشون حجرات منزله الذي جعل منه مدرسة للبنين والبنات، يستلهم منه القراءة والكتابة والحساب.
غادر هلال قريته بداية السبعينيات، وقد أصبح خطاطًا، فعمل لوحات شهيرة لمحلات الذهب لتجار قريته بكل من مدينتي تعز والحديدة، كمحلات الفحل في شارع 26 سبتمبر، وعمل بمحل الخطاط شكري الذي كان يثني عليه بعمله وفنه ودقته وسرعته في الخط، وكذلك له لوحات خطية متميزة في الحديدة.
ولأن اليمن لم يكن لديها خطاط بالأحبار، فقد كتب خطوط الوسائل التعليمية التي كانت تطبعها وزارة التربية والتعليم، وتوزعها على المدارس، مثلًا لكل من يتذكر لوحة "الطفل يتعلم ما يعيشه"، فهي بخطه، أو ترويسة خريطة الوطن العربي الذي وقع اسمه تحت عنوانها بهلال، وكذلك كانت خطوطه تشد الأبصار إليها أبصارنا جمالًا في أول ظهور لها على شاشة التليفزيون اليمني، برنامج الصحة والمجتمع، كمثال لخط جميل يضاهي خط الخطاط خضير البورسعيدي في التلفزيون العربي المصري.
توفي والده وهو في سن مبكرة، وهو وحيده، شق طريقه في صنعاء، واستقر في محله الذي استأجره بشارع البونية في صنعاء، واشتهر شهرة واسعة، وكان قبلة لزوار وعشاق الخط. تعلم وتأثر به الكثيرون من خطاطي صنعاء الناشئين، وملأت لوحاته شوارع صنعاء وأزقتها باسم هلال.
كان مثقفًا ورسامًا بالألوان الزيتية والجرافيك والموتيفات، ومن ضمن تقديماته لطلب وظيفة خطاط بصحيفة "الثورة"، كتب بخطه الجميل: "اسمحوا لي بأن أتقدم إليكم كخطاط يحدوه الأمل كي يسهم في كتابة الحرف الجميل على صدر صحيفتنا صحيفة الثورة الغراء التي من خلالها سنسهم في لفت نظر القارئ وجذب انتباهه مسهمًا بذلك بجانب زميلي الخطاط أحمد الأشول".
وكان التقديم بخط النسخ المنمنم الجميل، وكان هلال أول من تقدم لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بتقديم مطالبة بإنشاء جمعية للخط والخطاطين، وكان متألمًا ومستشرفًا لآفاق تطور الخط وانسداد أفقه من وقت مبكر جدًا حين لاحظ دخلاء المهنة يذهبون بالفن في اتجاه الصنعة في الابتذال بأعمال رديئة، وذكر أن على الوزارة تحمل مسؤوليتها في إنشاء مثل هذه النقابة لتسهم في الحفاظ على تراث وفن المهنة، وتضمن للخطاطين حقوقهم، وتدفعهم إلى الإبداع، ولكن للأسف الشديد دخلت حالته في إرهاق نفسي، وفي ليلة العيد سافر مع أبناء قريته من صنعاء لقضاء إجازة العيد، فبينما الناس تتزيا بأزياء العيد، تعيش فرحها الكامل به، كان هلال يصب الزيت على جسده، ويضرم به النار، وخرج يجري ويتلوى بين أزقة القرية، يتناثر جلده بين حصى طرقات القرية، فمع خروج المصلين من صلاة العيد من المسجد، لم تفلح جهودهم الاستثنائية في إطفائه، فكان يومًا كئيبًا، تصدر خبر وفاته الصحف، وكتب عنه الدكتور عبدالعزيز المقالح يومياته تحت عنوان "لماذا لا ينتحر الأدباء والفنانون العرب".. وكتب قصته وحضوره الفني في خطوط الصحيفة، وغيابه عنها، وكذلك الصحفي القدير الأستاذ محمد المساح في "لحظة يا زمن"، وآخرون.
وبذلك طويت صفحة الفنان والخطاط والمثقف محمد نعمان علي الفحل الذبحاني، المشهور بالخطاط "هلال".