البهائيون أو أبناء النور الذي تجاسر على الظل
لو كان للدين ذاكرة شعرية لكان البهائيون أحد أبياتها التي تُتلى همسًا لا جهرًا. جماعةٌ صغيرة العدد كبيرة الالتباس، خرجت من رحم المذهب الاثني عشري لتبحث عن "الوحدة الإلهية" خارج ضوضاء المساجد، كأنها أرادت أن تُعيد للسماء حقّها في أن تكون بلا طائفة. لتقول للعالم شيئًا بسيطًا ومزعجًا في آن: إن الحقيقة لا تلبس عمامة.
لكن التاريخ، وهو موظف دؤوب في دائرة الاتهام الكبرى، لا يحب الخارجين من الصفوف، قرر منذ البداية أن يجعلهم بين قوسين، لا كدين يُعترف به، ولا كبدعة تُنسى، بل كظلٍّ يتجوّل خجلًا في هوامش الوعي الإسلامي منذ القرن التاسع عشر.
الحكاية بدأت في إيران القاجارية، في زمن كانت الدولة تترنح بين خرافة الماضي ووعد الحداثة. هناك خرج علي محمد الشيرازي الملقب بـ"الباب"، بدعوته التي أرادت أن تفتح بابًا جديدًا للمعنى، فاتهموه بأنه يُغلق باب النبوة، ويفتح باب الفتنة. ثم جاء "بهاء الله" ميرزا حسين علي النوري، ليقول شيئًا أكثر إزعاجًا: إن لله رسلًا يتعاقبون كما تتعاقب الفصول، وإن وحيه لا يُحبّ أن يُختزل في كتابٍ واحد أو نبيٍّ واحد، لأن النور لا يعرف التقاعد، ولا يخضع لوزارة الخدمة المدنية.
ومن هنا بدأ التاريخ يُحضّر مشنقته لأبناء النور الذين تجاسروا على الظل، ويضيف اسمًا جديدًا إلى قائمته الطويلة لمن أحبهم النور وكرههم الفقهاء: البهائيون.
منذ تلك اللحظة أُدرجوا في المنطقة الرمادية: لا دينًا معترفًا به في الإسلام، ولا بدعة تُترك وشأنها. ظلّهم يسير في نهار الإسلام، لا يُقتل تمامًا، ولا يُسمح له أن يحيا. وكل من حاول فهمهم قيل له: "احذر، إنهم جماعة تؤمن بأن الله لا يكره أحدًا".
البهائيون في ظاهرهم طائفة، وفي باطنهم مشروع فلسفي/ روحي أضاع طريقه إلى الجامعة، فاستقر في المعبد. يؤمنون أن الأديان أشبه بأبناء لأبٍ واحد يتشاجرون على الإرث، بينما الأب مازال حيًا يُرزق. لا يُقاتلون أحدًا، لأنهم اكتشفوا أن الله لا يحتاج لمن يدافع عنه بل لمن يفهمه، وهذا ما جعلهم خصومًا مثاليين لكل سلطة تخاف من الفهم أكثر من الكفر.

ولهذا بدوا في نظر الفقهاء خطرًا أكبر من الكفار: فالكافر عدو واضح، أما البهائي فمؤمن تجاوز الخط المرسوم دون إذن من لجنة الإفتاء، لأنهم لم يأتوا من الخارج، بل من داخل النص، يعيدون تأويله، يحررونه من سلطته، ويمنحونه روحًا إنسانية تقف على حافة التصوف والعقلانية معًا.
البهائية لم تنتشر بالسيف، بل بالكلمة، وهي جريمة أعظم في نظر السياسة. كانت أقرب إلى "دعوة أدبية" منها إلى حركةٍ دينية مسيسة، كأنها تريد أن تُقنع العالم بأن الشعر أقدر على الإصلاح من الفتاوى.
رفضت الجهاد القتالي، واستبدلت الفتح بفكرة "الإصلاح العالمي" كما في كتبهم كـ"الإيقان" و"الأقدس"، كأنها حلمٌ طوباوي سابق لزمانه، أو تأويل مسالم لدين تعب من كثرة الحروب باسمه، ومع ذلك لم يسامحها أحد: نفاهم الشاه، حاكمهم رجال الدين، ثم أدرجهم السياسيون في قوائم "الريبة العقائدية". لم يُمنحوا حق الاعتراف، لأنهم ببساطة لم يمنحوا الفقهاء حق الوصاية على الله.
حين تقرأ نصوصهم، تشعر أنك أمام شاعرٍ يشرح لله معناه. يكتب "بهاء الله" كما يكتب صوفي مُرهف، يرى في الإنسان مرآةً للإله، وفي الإله ملامح الإنسان حين يتطهر من خوفه. يتحدث عن وحدة العالم لا كحلمٍ أممي، بل كقدرٍ إلهي أضاعه المتدينون في زحمة الطوائف. ولذلك ظلّوا في نظر الأنظمة والفقهاء كابوسًا مؤجلًا، فكرةً خطيرة، لأنها لا ترفع سلاحًا، ولا تهتف بشعار حزبي.
لم يفتحوا المدن بالسيف، بل بالحروف. كتبوا نصوصًا أقرب إلى الشعر منها إلى الفقه، وقالوا إن إصلاح العالم يبدأ من الداخل، لا من القصر الجمهوري.. فكرة رومانسية بلا شك، لكنها كانت كافية لتجعلهم في قوائم الإرهاب العقائدي من طهران إلى صنعاء. فالعالم كما يبدو لا يحتمل مؤمنين بلا رايات ولا أعداء.
في اليمن، كما في غيرها، عاش البهائيون كما يعيش الضوء في ثقب المفتاح. لا حزب، لا منبر، لا خُطب نارية، فقط إيمان خجول يتسلل بين القوانين والاتهامات. فكرة لا تهزمها السجون: أن الإيمان لا يحتاج إلى تصريح رسمي من وزارة الأوقاف.
يتّهمهم البعض بالعمالة أو بالتآمر الدولي، لأننا في عالمٍ لا يفهم الحياد إلا كجريمةٍ منظمة. وفي كل مرة يُعتقل فيها أحدهم، يظن مضطهده أنه اعتقل المذهب، بينما هو في الحقيقة قبض على فكرة كانت تحاول أن تتنفس.
البهائية ليست بدعة كما يروّج الوعاظ في ساعات فراغهم، ولا فلسفة باهتة كما يتخيل الأكاديميون في مؤتمراتهم، بل محاولة باذخة السذاجة لترميم العلاقة بين الإنسان وربّه دون وساطة.
هم أشبه بطفلٍ يحاول تعليم والده معنى الحنان، ولهذا يُغضبون الجميع: الفقهاء لأنهم لا يحتاجونهم، والسياسيين لأنهم لا يطلبون منهم شيئًا، والعوام لأنهم يشبهون ما تمناه كل واحد في لحظة صدق، ولم يجرؤ على قوله.
وربما لهذا السبب ظلوا في ذاكرة العالم مثل قصيدة تتلى بلغات كثيرة، ولا تُفهم في أي منها. يَتهمهم الجميع، لكن لا أحد يقرأهم.