غزة وإسرائيل.. حرب يوقع نهايتها من لم يخضها
لأول مرة في التاريخ، تُوقَّع اتفاقية لوقف حرب دون أن يكون المتحاربون أنفسهم طرفًا فيها. أربعة وسطاء جلسوا على الطاولة ووقعوا الأوراق، بينما الغائب الأكبر هو من ينزف تحت الركام في غزة، ومن يطلق النار من وراء الجدران في تل أبيب. مشهد كهذا لا يعبّر عن انتصار للدبلوماسية بقدر ما يكشف عن انكسار الإرادة الوطنية، وعن زمن أصبحت فيه الحروب تُدار بالتحكم عن بُعد، مثلما تُدار الصفقات التجارية أو حملات الدعاية.
في الحروب القديمة، كان المنتصر يفرض شروطه، والمهزوم يوقّع على الاستسلام. أمّا اليوم، فقد أصبح الوسطاء هم المنتصرين الوحيدين، يخرجون إلى الإعلام بابتسامات عريضة وكلمات منمقة عن "السلام" و"الجهود الإنسانية"، بينما الحقيقة أن ما وُقّع ليس سلامًا، بل هدنة ملغومة تُبقي النار تحت الرماد.
من المفارقات أن الوسطاء الأربعة الذين وقّعوا الاتفاقية يختلفون فيما بينهم أكثر مما يختلف المتحاربون أنفسهم، ومع ذلك اتفقوا على أن يضعوا توقيعاتهم باسم الآخرين. وكأن العالم أراد أن يقول: لسنا نملك إنهاء الحروب، لكننا نملك تنظيم شكلها وضبط إيقاعها الإعلامي والسياسي.
لم تعد غزة بالنسبة لكثير من العواصم سوى ورقة تفاوض أو رمزٍ للمزايدة. فالدم الفلسطيني لا يُقاس بعدد الشهداء، بل بعدد المواقف التي يمكن أن تُستثمر سياسيًا. ولهذا، لا عجب أن يُوقّع اتفاق وقف النار دون حضور من يعيش الحرب فعلًا؛ فهؤلاء لا يملكون طائرات ولا قنوات، ولا يجلسون على موائد القرار.
لقد تحوّل المشهد كله إلى مسرح كبير، أبطاله ليسوا من يقاتلون، بل من يظهرون على الشاشات بعد انتهاء القتال. حربٌ بلا شجاعة، وسلامٌ بلا أطراف، ودماءٌ بلا عدالة. وفي النهاية، يخرج الوسطاء ليعلنوا: "نجحنا في وقف الحرب"، بينما الحقيقة أنهم نجحوا فقط في وقف الصورة... لا في وقف المأساة.
لكن ما جرى في غزة ليس استثناءً؛ فاليمن اليوم يعيش مشهدًا مشابهًا في خلفيته وإن اختلفت تفاصيله. فالحرب هناك يمكن أن تتوقف في أية لحظة لو قررت القوى التي تدعم أدواتها على الأرض أن توقع اتفاقًا فيما بينها، دون حاجة لإرادة يمنية حقيقية. تمامًا كما وُقّع اتفاق غزة دون حضور أهلها، يمكن أن تُعلن نهاية الحرب في اليمن بقرار خارجي لا وطني، لأن القرار لم يعد ملكًا لمن يموتون في الميدان، بل لمن يقررون متى تبدأ الحرب ومتى تتوقف.
إنها المأساة ذاتها تتكرر، مرة كمأساة وأخرى كمهزلة، حيث تُدار الحروب باسم الشعوب دون أن يُستشار فيها أحد من الشعوب.