ثورة 26 سبتمبر الخالدة.. بين الحقيقة والادعاء(1-2)
"الثورة يُخطط لها الأذكياء، ويُنفذها الشجعان، ويستفيدُ منها الجُبناء أو الانتهازيون!" مقولة، منسوبة لجيفارا، وقيل لينين، وقيل لأحد الذين قاموا بالثورة الفرنسية. وأيًا كان قائلها، فإن ما يُهمنا هو فحواها، وأهدافها.
وقبل مناقشة ما آل إليه وضع ثورة 26 سبتمبر وأهم أهدافها، لا بد من معرفة ما تعنيه "الثورة"؟! (Revolution)، فحسب ما جاء ببعض القواميس وغيرها، فإنها تعني، لُغويًا، من ثار يثور، أي هاج واندفع.. ويمكن أن تطلق على الغضب والانتفاضات، كما تعني التحول بوجه عام.. الخ.
وسياسيًا، تعني الثورة، بكونها حركة جَمَاعية أو مجموعة تقوم بها لهدف تغيير نظام سياسي تغييرًا جذريًا وتحولًا كبيرًا في مختلف الجوانب، وذلك من خلال انتقال السلطة من الطبقة الحاكِمة إلى الثوار، أي ثورة شاملة (Overall Revolution)، فهي عكس ما يعنيه الانقلاب (Coup)، الذي يعني القيام بإزاحة نظام فردي أو حكومة تنتمي إلى نفس الجيش أو السلطة التي قامت بالانقلاب!
ولذا، يمكن القول إن ثورة 26 سبتمبر هي (ثورة) وليست انقلابًا، كونها تهدف إلى تغيير نظام (إمامي) وبصورة شاملة، عكس انقلاب عام 1948م، كونه هدف إلى تغيير الإمام بإمام آخر! ثم، الثورة الحقيقية حينما تعبر عن غالبية أبناء أي شعب أو مجتمع، لا بد أن تنجح وتستمر مهما ظلت بعض العراقيل أمامها، وتلك تنطبق على ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة.
بينما الانقلاب أو (الثويرة) التي تعبر عن فئة ضئيلة، أو تظهر بتوجهات وتناقضات مغايرة لغالبية أبناء المجتمع، فهي فاشلة، ولن تدوم طويلًا، وتنطبق على انقلاب عام 1948م، وعلى انقلاب 21 سبتمبر 2014م المشؤوم.
والسؤال هنا: ما الذي تحقق من أهداف ثورة 26 سبتمبر وما لم يتحقق؟! وقبل الإجابة على السؤال، لا بد من معرفة ما كان عليه الوضع قبل ثورة 26 سبتمبر الخالدة، وبصورة موجزة، ومن خلال نقل بعض ما جاء ذلك شعرًا، فلقد ظللتُ أتابع وأقرأ بعضًا من حياة "البؤس" التي عاشها الآباء أيام الأئمة قبل ثورة 26 سبتمبر الخالدة، ثم تابعتُ أحفاد الأئمة ذاتهم ممن يُصرون على العودة إلى ذلك البُؤس والشقاء، فتذكرت قصيدة للراحل عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضُول) بعنوان "شعب بحمد الله"! قالها في الخمسينيات، ربما على لسان الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، يومها!)، وهي من 11 بيتًا، وكلها تمثل قمة السخرية التي امتاز بها الفضول، رحمه الله. وها هي الأبيات نفسها تنطبق تمامًا على طفل مَرَّان الصعدي (عبدالملك الحوثي)، مخاطبًا شعبه (قبائل الطوق) وما في حكمها! مع الفارق الكبير جدًا بين الجّد والحفيد! واخترتُ خمسًا من أبيات القصيدة تلك، لمن يرغب بالاطلاع عليها، وهي:
"شعبٌ بحمد الله يمشي لِلورا
لحف التراب وبالحصير تأزرا
أدَّبْتُه بالفقر حتى يَرْعَوي
وحملتُه بالجوع كي لا "يَبْطَرَا"
قَسَمًا بِظُلْمَةِ كُل سِجنٍ لَنْ يَرى
أحدٌ لهذا الشعب إلَّا ما أرى!
إن القُيُود أو اللحود وقاية
مِمَّن يُحاول فيه أن "يَتعَنْتَرا"
شعبي العزيز وُقيتَ من حُريةٍ
ووقتك حيطان السُّجون تَحَرُّرا"
فما أشبه الليلة بالبارِحَة!
ولكن، لكن.. رغم ما تحقق للشعب من بعد ثورة 26 سبتمبر، بخاصة ذوقه لطعم "الحرية"، وظهور وَعي، وإن ظل يختلف من محافظة إلى أُخرى، ومن مكان إلى آخر، وبحسب مستوى الثقافة والتعليم، بجانب دفنه للعنصرية والاصطفاء، وغير ذلك من الخرافات والدجل والتظليل، وتلك من أهم أسباب خوف "الحوثة" من ثورة 26 سبتمبر، بل من مُجرد ذكرها وَرَفع علمها! وما ذلك إلا لِمعرِفتهم المُسبقة برفض توجهاتهم العنصرية، وتغليب العقل والوعي لدى الشعب اليمني، ليصبح خارج سلطته وخرافاته وعمالته لإيران، وكذبه البواح بمجمل توجهاته الخاصة والعامة، ليس فقط في المدن والمحافظات اليمنية المُحررة، وإنما يتعدى ذلك إلى غيرها من المناطق التي لاتزال تحت سلطتهم، مع بعض الفارق. لكن، مرة أُخرى، رغم ما أشرتُ إليه آنفًا، هل لايزال الشعب يمشي للوراء كما كان في بداية الخمسينيات؟ أيام قول الشاعر الفضول -رحمه الله- ما قاله في أول الأبيات الشعرية الخمس التي ذكرتها هنا؟! والإجابة على السؤال قد يأتي بعضها من خلال الاطلاع على ستة أبيات من شعر طيب الذكر عبدالله صالح البردوني -رحمه الله- من قصيدة له تحتوي على 16 بيتًا، نقلًا عن ديوانه "لعيني أُم بلقيس"، بعنوان "حيثُ كُنا". والأبيات الشعرية التي اخترتها اجتهادًا، هي:
"كلما جَدَّ أننا قد كشفنا
أوجُهًا، دلنا عليها اللثامُ
يرتدي كل سَاعَةٍ ألف لونٍ
وله كل سَاعَتَينِ نِظامُ!
وَنِعال الغُزَاة وهي كثيرٌ
فوق أعناقِنا جِبَاهٌ وَهَامُ
والأُباة الذين بالأمس ثارُوا
أيقظوا حَولَنَا الذَّئَابَ وَنَاموا
رُبَّما أحسَنوا البدايات لكن
هل يَحُسُّون كيف سَاءَ الخِتَامُ؟!
مات (سبتمبر) البَشير ولكن
أُمه نَاهِدٌ هَوَاهَا غُلَامُ"
لنتدبر هذه الأبيات الستة بكل تمعن، ونقرأ ما بين سطورها، لكي نعرف ما آل إليه وضع أهداف الثورة اليمنية أو معظمها، كما شرح ذلك هذا الشاعر الاستثنائي بهذه الأبيات.
إن ما أود قوله هنا، أن أي انتقاد لعدم تنفيذ أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة أو بعضها، لا يعني قطعيًا المَسَاس بأهمية الثورة، ولا بالدور الذي قامت به من أجل الشعب اليمني، كما لا يعني عدم التقدير والفخر والاعتزاز بمن خططوا لها ونفذوها، فهم ظلوا ولايزالون وسيظلون موضع حُب وتقدير كل الشعب اليمني أثناء وبعد حياتهم، ويكفي مقولة الزعيم السبتمبري الراحل عبدالله يحيى السلال -رحمه الله- أن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر نقلت اليمن أرضًا وشعبًا من حياة ألف عام بيوم واحد، أو كما قال.
كما يكفي من الثورة أيضًا، انفتاحنا على العَالم، بعد أن ظل آباؤنا وأجدادنا يعتقدون انتهاء حجم العَالَم بالمنطقة التي وُلدوا بها! واكتشفنا أن السجود لغير الله لا يجوز للإمام ولا لغير الإمام، رغم أنهم كانوا يقرؤون القرآن ويتدارسون الأحاديث النبوية!
كذلك، انتقاد عَدَم تنفيذ أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة، لا يعني عدم التقدير والفخر والاعتزاز بكل من ظلوا يُدافعون عن الثورة منذ انطلاقها، ومن كل محافظات ومدن ومناطق اليمن دون استثناء، بمن فيهم دور أبناء المحافظات الجنوبية، في مُساندة الثورة والدفاع عنها، ومنهم من أبناء الضالع ويافع وردفان بوجه خاص، التزامًا منهم بواحدية الثورة والوطن والمصير المُشترك، ممن شاركوا في معارك تثبيت النظام الجمهوري، بجانب أشقائهم أبناء المحافظات الشمالية والجيش المصري، والذي -أعني الجيش المصري- لولاه بعد الله لَمَا انتصرت الثورة، رغم أهمية دفاع أبناء اليمن شمالًا وجنوبًا، وهو ما تجلى بأبهى صوره أثناء حصار السبعين يومًا للعاصمة صنعاء، بعد انسحاب الجيش المصري من اليمن.
والسؤال هنا: لماذا لم يتم تنفيذ أهداف الثورة اليمنية أو بعضها؟!
قد يمكن القول إن الهدف الأول الذي يتضمن التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما، ربما تحقق الكثير منه، وإن كانت بعض مخلفات الاستبداد بالذات استمرت، وإن بصورة مُغايرة عما كان عليه قبل قيام الثورة.
بينما الهدف الثاني الخاص ببناء جيش وَطني قوي، فقد بدأ ثوار ثورة السادس والعشرين من سبتمبر ببناء الجيش، وفي حدود الإمكانات المتاحة حينها! وظل شِبه مُوحد حتى يوم 30 نوفمبر 1967م، حينما بدأ العد التنازلي لتوحيد الجيش، إذ بدأت كل فرقة ولواء تنحاز لِفِئة معينة، حتى جاءت حركة الثالث عشر من يونيو التصحيحية عام 1974م، بقيادة الشهيد الراحل إبراهيم بن محمد الحمدي -رحمه الله- ليبدأ ببناء وحدة الجيش فعلًا، بجانب حدوث تطورات اقتصادية وتنموية شاملة وأمن واستقرار... الخ. لكن ذلك تحقق على حساب بعض القوى العسكرية والقبلية النافذة، والتي توحدت لوضع حد لطموح وتوجهات الشهيد الحمدي الوطنية، ليظل الجيش بعده مُوحدًا ظاهِريًا! وقامت وحدة الوطن اليمني الواحد، وظن أمثالنا أن ذلك سيؤدي إلى توحيد الجيش ضمن توحيد جوانب أُخرى عديدة، لكنه لم يحدث، لتأتي حرب عام 1994م التي أجهضت تصورات وأحلام ورغبات الشعب اليمني! ثم، رغم تحقيق العديد من العوامل التي تساعد على بناء الجيش وتطوره كمًا وكيفًا، وتخريج المزيد من الكليات العسكرية المختلفة، إلا أن بداية النهاية لتوحيد الجيش عرضًا وجوهرًا بدأت بقوة من بعد عام 1997م، إذ طغى ولاء الجيش للقبيلة أكثر منه للوطن، بخاصة مع احتكار أهم ألويته، حتى قيام ثورة الشباب يوم 11 فبراير 2011م، ليظهر انقسام الجيش أكثر من أي وقتٍ مضى، مما أدى إلى إضعافه وفقدان هيبته بسبب تعدد ولائه، وليكتشف غالبية الشعب اليمني عدم وجود جيش حقيقي باسم الوطن رغم الظاهر! ولذا، يمكن القول إن الهدف الثاني من أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر لم يتحقق كما تطلع إلى تحقيقه الثوار، أما السبب فسيأتي توضيحه في الحلقة الثانية والأخيرة من هذه المقالة.
بينما الهدف الثالث تحقق بعضه، ولم يتحقق البعض الآخر، كما سنعرف أسباب ذلك في الحلقة القادمة أيضًا! وكذلك الهدف الرابع تحقق بعضه، أما الهدف الخامس فقد تحقق يوم الثاني والعشرين من مايو 1990م، والذي شارك في تحقيقه قيادتا الشطرين في ذلك الوقت، رغم ما حدثت من تشوهات عليه، وبالنسبة للهدف السادس فهو تحصيل حاصل!
نلتقي في الحلقة الثانية والأخيرة من هذه الدردشة.