صنعاء 19C امطار خفيفة

ثورة ٢٦ سبتمبر: تجدد العلة واستمرار القيمة في معرض القياس

قبل أيام قليلة مرّت الذكرى الثالثة والستون لقيام الثورة والجمهورية في 1962م، وسط جدل محتدم حول صيرورة قيمتها في ميزان تجدد سبب قيامها، وقياسها على أمثالها من الثورات اللاحقة، لا سيما ما يُعرف بثورة الشباب في 2011م، ثم ثورة الحوثيين المزعومة في 2014م، وانتهاء بانتفاضة الرئيس الراحل صالح في 2017م.

عظيم أن تمتلك الشعوب قواعد مرجعية تنظم بها شؤونها، وثوابت راسخة لا تبلى قيمتها ولا ينقطع أثرها الممتد، فهي علة وجودها في الماضي وسبيل تجددها في الحاضر. وثورة 26 سبتمبر/ أيلول في 1962م مثال جلي على ذلك. وما إن عادت الإمامة في ثوبها الجديد، حتى عادت العلة نفسها، فكان القياس على مثالها حتميًا؛ كثورة 2011 التي لم تُحدِث أثرًا يوازي، ولا قيمة تضاهي، ما أحدثته الثورة الأم في 1962م. وهكذا، بتجدد العلة وضرورة المقارنة تأكدت قيمتها وأثرها، لتغدو ضرورة متجددة بقدر تجدد الاستبداد ذاته.
وما هذا الاحتفاء المتجدد بثورة مضى على قيامها أكثر من ستة عقود، وتزايد زخمها عامًا بعد عام، في مقابل انحسار بريق الثورات اللاحقة، إلا دليلًا ساطعًا على رسوخ رمزيتها ودوام وظيفتها التاريخية. فالثورات الحقيقية لا تُقاس بعمرها الزمني، بل بقدرتها على الاستمرار كمرجعيةٍ جمعية تُستدعى كلما تجدد الاستبداد. ولأن فواعل الاستبداد -في الوعي الجمعي على الأقل- تتشابه في جوهرها وأساليبها، فإن فواعل المقاومة بدورها تتجدد على النحو نفسه، فتتخذ الثورة أشكالًا جديدة كلما تبدلت وجوه القهر. وهكذا تتصل الجسور بين الماضي والحاضر في اليمن في صور ذوات متناقضة وأحداث متجددة، تتجسد في جمهوريين وإماميين على الدوام.
في المقابل، تتحجج جماعة الحوثيين إزاء حملاتها الأمنية المكثفة في كل مناسبة سنوية لثورة 26 سبتمبر، بأن لم يكن هناك مظاهر بهذا الزخم في السابق، وهذا -في زعمها- دليل على أن المراد إحداث فوضى أمنية بإيعاز من جهات داخلية وخارجية. ولهذا تمضي في فرض قبضتها الأمنية، وتشن حملات اعتقال واسعة تطال كل من يجاهر بالاحتفاء بهذه الثورة. ولعل في موقفهم قدرًا من الصواب، إلا أنهم لم يتوقفوا يومًا للتساؤل -بعيدًا عن غشاوة نظرية المؤامرة التي تُضخم ما هو عارض وتتجاهل ما هو عميق- عن السبب الحقيقي وراء هذا الحراك الشعبي المتجدد عامًا بعد عام. عليهم أن يدركوا أن الشعوب، مهما طال صمتها، لا تفقد ذاكرتها الجمعية، بل تحتفظ بها في طيات الوعي، لتعود فتستيقظ حين تُستفز قيمها وكرامتها.
هكذا للشعوب ذاكرة تستحضر الماضي في يد، وبندقية تصون الحاضر في اليد الأخرى. في اليمن، غدا السباق إلى الماضي غاية لا وسيلة، بإدراك أو بدونه؛ فالحوثيون يقودون البلاد إلى الماضي في كل شيء، رمزيًا وفعليًا، تارة في أسلوب حكمهم الذي يشبه إلى حد بعيد حكم الأئمة الكهنوتي الذي ينكرونه، ويؤكده العقل الباطن لليمنيين، وطورًا في أفعالهم التي -وبالمقارنة بالعهد الجمهوري حتى عام 2014م- هدمت ما تبقى من البيت اليمني الذي بناه الجمهوريون الأوائل.
وعلى الضفة الأخرى من هذا السباق الاضطراري نحو الماضي، يركض اليمنيون نحو رموز وأفعال ثورتهم الأم، من بداياتها حتى آخر منجزاتها، حتى غدا القول الشائع: "سلام الله على عفاش وأيامه" علامة على استدعاء الماضي كملاذ رمزي، يثبت في الوعي الجمعي أنه لا يسقط بالتقادم.
كتبت في عام 2012م مقالًا بعنوان "الثورة: قدرٌ أم مؤامرة؟" تناولت فيه ثورات الربيع العربي، ولا سيما فرعها اليمني. كنت آنذاك أعدها قدرًا حتميًا للتغيير، غير أنني -بعد ثلاثة عشر عامًا- أجد نفسي أعيد النظر في تلك القناعة، فأراها اليوم مؤامرة لا على نظام صالح فحسب، بل على ثورة 26 سبتمبر وأهدافها.
هذه الجمهورية الوليدة، التي خرجت من رحم ثورة سبتمبر، أرست أهدافًا واضحة أعادت رسم ملامح اليمن داخليًا وخارجيًا، وإن لم تبلغ الكمال، كما هو شأن الدول الناشئة المثقلة بظروفها. لقد انسجمت مع سياقها التاريخي والجغرافي؛ إذ أسقطت نظامًا فاقد الأهلية ككيان سياسي، لا هو ملكي بالمعنى الحديث ولا إمامي بالمعنى التقليدي، كما يصفه الكاتب اليمني محمد العلائي. تلك الأسرة الحاكمة انتهت بعد قرون غيبت اليمن واليمنيين عن كل مظاهر التنمية والحداثة التي شهدتها المنطقة آنذاك. غير انها تعثرت في محطات عدة، منها حصار السبعين واقتتال فرقائها، وذلك باعتراف القاضي عبد الرحمن الارياني، ثاني رؤساء الجمهورية الوليدة، حتى وصفها بعض اليساريين لاحقًا بـ"جمهورية القبيلي" في إشارة إلى تغلغل سلطة القبيلة في بنية الدولة. ومع ذلك، ظلت أرحم وأفضل من "جمهورية الكهنوت الإمامية"، التي لم ولن تكن جمهورية ولا ملكية، بل نزوة ماضوية تسوم اليمنيين سوء العذاب وتعيد إلى وعيهم قيمة ثورتهم الأم عبر نقيضها.
ومع بزوغ شمس أول جمهورية في جزيرة العرب، تلتها ثورة 14 أكتوبر ضد الاستعمار في جنوب الوطن، ثم توحدت الجمهوريتان اليمنيتان في جمهورية واحدة في 22 مايو 1990م، عُرفت بالجمهورية اليمنية. غير أن هذا الثالوث الجمهوري -القضاء على الإمامة في 26سبتمبر، ثورة الاستقلال في 14 أكتوبر، وتوحيد اليمن في 22 مايو- لم يدم طويلًا؛ إذ تعرض لثلاث نكسات كبرى، بدأت بحرب الانفصال عام 1994م، ثم أحداث 2011م، تلاها انقلاب الحوثيين عام 2014م. وإلى جانب تمرد الحوثيين في صعدة من 2004م إلى 2009م، هبت رياح الربيع العربي، فشهد اليمن منها ثلاث ثورات، بحسب توصيف أصحابها: ثورة 11 فبراير التي قادها حزب الإصلاح، وثورة 21 سبتمبر الحوثية، وأخيرًا ثورة 2 ديسمبر التي دعا إليها صالح. وليس في كثرتها إشكال، مادام ميزان القيمة يُقاس بالسياق والمقارنة.
في سبيل التحرر من الاستبداد والمضي نحو الحرية والمساواة، كان على هذا المشروع الخالد أن يخوض ثلاث جولات من النضال ضد العدو ذاته: القضاء على الإمامة، وحصار السبعين، ثم انقلاب الحوثيين عام 2014م. فسقوط قلب الجمهورية في صنعاء كان جللًا، غير أن سقوط الجمهوريين أخطر من سقوط الجمهورية نفسها. فالحوثي يدعي حراستها برجال وأفكار إمامية، وبعمامة ولاية الفقيه جيء بها من طهران.
لكل ثورة ظروف وشروط، ولها ثوار متشابهون ومتباينون. وفي اليمن، كان الإخوان المسلمون ولايزالون عنصرًا حاضرًا في كل مركب سياسي، يظهر بوجهين متوازيين: داخلي ينزع إلى "جمهورية إسلامية"، وخارجي يحلم بـ"خلافة إسلامية متخيلة" بشر بها الربيع العربي من المحيط إلى الخليج. لقد رفعوا شعار "الدولة المدنية ولا للتوريث"، وفيه أظهروا تناقضاتهم؛ فالدولة المدنية تعني -في الغالب- علمانية الدولة التي لا يؤمنون بها أصلًا، و"لا للتوريث" شعار يفضحه واقعهم، وأمين حزبهم اليدومي مايزال في موقعه منذ عقود.
لايزال الجمهوريون -رغم اختلافهم- يؤمنون بأهمية الجمهورية في تثليثها: النظام الجمهوري المستقل الموحد، لكنهم يجهلون كيف يحمونها حتى انقضت الإمامة عليهم جميعًا في انقلاب 21 سبتمبر بعد أن مهد الربيع العربي طريقه.
محاولات التكفير عن ذنب التفريط بثورة 26 سبتمبر انطلقت في شكل قطار متقطع، مقصوراته لم تلتئم بعد. يتحدث جمهوريو 26 سبتمبر كل يوم عن الذنب والخلاص في ثلاثة شعارات: "قادمون يا صنعاء" و"الشراكة الوطنية" و"تلاحم الصف الجمهوري"، لكن الوقت يمضي وهم منقسمون جغرافيًا وثقافيًا، وكأن استعادة صنعاء وحماية النظام الجمهوري مجرد حملة انتخابية لا واجبًا أخلاقيًا يليق بالانتساب والادعاء.
أما صالح، الجمهوري العتيد، فقد ضاق به قفص ثوار 11 فبراير، حتى وجد نفسه محشورًا كقط في زاوية، لا مخرج له إلا أن يقاتل دفاعًا عن نفسه. رجل خبر تاريخ اليمن وجغرافيته، لكنه في لحظة نزق الثوار ونزوة الانتقام فقد بوصلته، فاختار التحالف مع الإمامة التي حاربها ذات يوم. في ذلك المأزق بدا كمن انقلب على تاريخه، وفتح الطريق لعدوه القديم كي يلتهمه في النهاية، فصارت حياته كفارة لتلك الخطيئة.
هكذا يتجدد معنى ثورة 26 سبتمبر في الوعي اليمني الجمعي، معمّدًا بالقيمة والقياس والإجماع، لتغدو معيارًا يقاس به الحاضر، وذاكرة حية تعيد تعريف الصراع بين مشروع الحرية ومشروع الاستبداد. وفي كل مرة يحاول الاستبداد العودة، تنهض سبتمبر من جديد، شاهدةً على أن قيمتها ماتزال فاعلة، وأن وظيفتها التاريخية والاجتماعية لم تكتمل بعد.
وأخيرًا، إن كان الولاء عماد الإمامة، فالوفاء عماد الجمهورية.
كاتب وأكاديمي

الكلمات الدلالية