صنعاء 19C امطار خفيفة

المنظومات الفاسدة لا تُصلح بل تُقتلع

في أكتوبر 2019، أعلنت الحكومة اللبنانية عن فرض ضريبة على المكالمات عبر تطبيق واتساب وغيره من التطبيقات؛ فاندلعت احتجاجات عفوية سرعان ما تحولت إلى ما يشبه انتفاضة جماعية طالبت بتغيير جذري للمنظومة الحاكمة تحت شعار «كلن يعني كلن». شارك فيها فئات واسعة من اللبنانيين، لا سيما الشباب والمثقفون، وكانت السمة البارزة أن المحتجين كانوا من جميع الطوائف اللبنانية، ما أكسبها طابعًا وطنيًا شاملًا.

جاءت هذه الانتفاضة تعبيرًا عن حالة من "طفح كيل" من وقاحة الفساد والعبث الذي تمارسه منظومات الفساد بقيادة أمراء الطوائف، التي احتكرت الوظيفة العامة والمناصب والفساد والارتزاق والعمالة للخارج.

حينئذٍ نظر كثيرون إلى تلك الانتفاضة كإرهاصات لجمهورية لبنانية جديدة، وثورة قد تقتلع منظومات الفساد كافة وتؤسس النظام الذي يحلم به الشعب اللبناني، وهو الشعب الأكثر تسيسًا وانفتاحًا في العالم. رفع المحتجون شعار «كلن يعني كلن» بمعنى أن كل الطبقة السياسية فاسدة، وأن عليها أن ترحل وتأتي طبقة جديدة بدلًا عنها.

لكن هذه الاحتجاجات، رغم ضخامتها وشرعيتها الأخلاقية والسياسية، ودعم النخب المثقفة، لم تُفضِ إلى إصلاح أو تغيير يُذكر؛ بل على العكس تفاقمت الأوضاع. فعقب استقالة سعد الحريري بعد 12 يومًا من الاحتجاجات، اتفقت منظومات الفساد بزعامة حزب الله على إيكال تشكيل الحكومة إلى حسان دياب، الأقرب إليها من سعد الحريري.

وعلى الصعيد الاقتصادي شهدت الليرة اللبنانية تدهورًا هائلًا؛ فقد انخفضت من 1600 ليرة مقابل الدولار إلى 15 ألفًا خلال بضعة أشهر، ووصلت بعد ثلاث سنوات إلى حدود الـ100 ألف ليرة في 2023. أدى ذلك إلى تبخر مدخرات الغالبية الساحقة من اللبنانيين، والذين مُنعوا من سحب ودائعهم؛ وكان من الملاحظ أن هذا المنع لم يشمل زعماء الطوائف ومحاسيبهم وكبار القوم.

وُجهت مسؤولية ذلك إلى رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، الذي فُتحت ملفات فساد له في أكثر من دولة، وأصبح مطلوبًا للمحاكمة في أكثر من مكان؛ ومع ذلك لم يستقل إلا بعد ضغوط خارجية شديدة في 2023.

وبعد أقل من عام على اندلاع الاحتجاجات وقع الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت في 10 أغسطس 2020، وكان من المتوقع أن يؤدي هذا الانفجار -الناجم عن الفساد وسوء الإدارة والإهمال- إلى إصلاح منظومات الحكم الفاسدة؛ إلا أن لا شيء حدث سوى استقالة رئيس الحكومة ودخول لبنان في حالة شلل حكومي، فيما عطلت منظومات الفساد التحقيقات التي كانت ستؤدي إلى توجيه المسؤولية المباشرة والتقصيرية لبعض أركانها.

في سوريا المجاورة اندلعت ثورة شعبية عارمة في 2011 على عائلة الأسد، التي كانت تحكم سوريا لأكثر من أربعين عامًا؛ ورغم مقتل مئات آلاف ونزوح وتشرد أكثر من 60% من سكان البلد وخضوعه لسيطرة خارجية متعددة، لم يحدث أي إصلاح أو تعديل في نظام حكم عائلة الأسد، بل ازدادت هذه العائلة فسادًا وطغيانًا وانغلاقًا حتى تم اقتلاعها في 8 ديسمبر 2024.

ثمة قاعدة عامة مفادها أن المنظومات التي تتأسس على الفساد أو الإجرام أو كليهما يستحيل أن تتعدل أو تُصلح مهما اشتدت الضغوط أو تكشفت مساويها. يعود سبب ذلك إلى بنيتها وتركيبتها غير القابلة للإصلاح؛ فهذه المنظومات هي سلسلة حلقات مرتبطة عضويا ببعضها البعض، وفك أي حلقة من السلسلة يؤدي إلى انهيارها، كما في قطع الدومينو.

كل هذا يؤكد حقيقة واحدة: منظومة الفساد في أي مجتمع لا تُصلح ولا تُعدَّل، بل تُقتلع إما بفعل خارجي أو بثورة شعبية. أما الوهم بأن الضغوط الشعبية أو المظاهرات أو الفضائح ستجبرها على الإصلاح أو ستجعل بعض رموزها يستقيلون أو يُحاكمون، فهو مجرد وهم.

ينطبق ذلك على النظم السياسية المتكاملة كما على المجتمعات المفككة، كما في اليمن ولبنان. وعلى النظم السياسية مثل نظام القذافي والأسد وصدام حسين، فتلك الأنظمة ومهما ارتكبت من كوارث وواجهت من ضغوط، لم تتغير؛ لأنها تأسست على أسس غير سليمة، وكأنها حجارة متراصة تدعم بعضها: إذا زال حجر ينهار البناء. لذلك تزداد هذه الأنظمة تمسكًا بسلوكها، بل وتُغالي فيه؛ إن كانت فاسدة تزداد فسادًا، وإن كانت وحشية تزداد توحشًا. وحتى نظام علي عبدالله صالح فإنه لم يتعدل أو يصلح، رغم كل الضغوط الذي تعرض لها قبل 2011 بل ازداد انغلاقًا وفسادًا. وفي الأخير أُجبر على الخروج من السلطة تحت وقع الضغوط الداخلية والخارجية.

وفي اليمن اليوم، يطالب الكثيرون حزب الإصلاح -الذي يحكم أجزاء من محافظة تعز- بإجراء تعديلات ومراجعة سلوكه بعد اغتيال «افتهان المشهري»، متوقعين أن المظاهرات وانتشار فضائح حكمه كافيان لذلك. لكن الواقع أن حزب الإصلاح في تعز يمثل منظومة فساد قائمة على البلطجة، وهو ما يجعله غير قادر على أن يصلح نفسه. فالفساد والبلطجة، ليست أعمالًا فردية، بل منهج تمارسه المنظومة الحاكمة، والتي تشمل أطراف من أحزاب أخرى. وأي إصلاح حقيقي، مهما كان محدودًا، سيؤدي إلى سلسلة تفاعلات تنتهي بانهيار المنظومة كاملة؛ كما أن إجراء محاسبة حقيقية لجريمة افتهان المشهري ستجرّ المنظومة كلها إلى خانة الإدانة، إذ إنها لن تقتصر على كشف خبايا جريمة افتهان فقط، لكنها ستكشف جرائم أخرى وفاعليها، وهم القادة الفعليون للمنظومة.

لذلك تمت تصفية قاتل افتهان بسرعة؛ إذ إن بقاءه حيًا ومحاكمته كان سيكشف الخيوط الخفية التي تربط المنظومة بتلك الجريمة وبجرائم سابقة حرضته عليها وغطت عليه. ولسوء حظ المنظومة أن القاتل تنبه لما كانت تُخطط له، وكشف عن بعض ممن حرضه ووعده بالتغطية والتستر، قبل أن يُصفى.

منظومة حزب الإصلاح الفاسدة في تعز ومأرب هي نسخة شبيهة بالإقطاعيات العسكرية التي تسيطر على مناطق اليمن المختلفة. هذه الإقطاعيات -كالحوثيين والانفصاليين/ الانعزاليين وإقطاعية الساحل- منظومات متشابهة من حيث النوع، وإن كانت تختلف فيما بينها في درجة الفساد والبلطجة.

الاحتجاجات على الجرائم البشعة مثل مقتل افتهان قد تؤدي في أحسن الأحوال إلى تهذيب بعض مظاهر الفساد والبلطجة مؤقتًا، لكنها لن تُحدث تغييرًا جذريًا في النهج، لأن تغيير هذا النهج يعني انهيار المنظومة الفاسدة بالكامل.

الكلمات الدلالية