من حروب الجيوش إلى حروب المقاومة: تحوّل ميزان القوة!
منذ الحرب العالمية الثانية تشكّلت العقيدة العسكرية العالمية على أساس تفوّق الجيوش الكبيرة، المعزّزة بالأسلحة الثقيلة والمدرعات، والقوة الجوية والبحرية الضخمة. هذه العقيدة كانت انعكاسًا لتجارب القرن العشرين حيث حُسمت المعارك الكبرى عبر حشود ضخمة وسباق تسلّح نووي وتقليدي. غير أنّ الحروب المعاصرة ـ من أوكرانيا إلى البحر الأحمر ـ تكشف أن هذا النموذج يمر بأزمة عميقة، وأن أدوات القتال وأساليب الحسم تشهد تحوّلًا جذريًا.
تراجع فعالية الجيوش الثقيلة
تُظهر التجربة الأوكرانية أنّ الحرب التي بدأت كصراع جيوش نظامية بأسلحة مدرعة وصواريخ استراتيجية، تحولت بسرعة إلى حرب استنزاف طويلة تعتمد على وحدات خفيفة، وضربات صاروخية دقيقة، واستخدام واسع للمسيّرات. هذا التحول أضعف منطق “الحسم السريع” الذي افترضته العقيدة الكلاسيكية، وأعاد الاعتبار لفكرة الاستنزاف والمرونة القتالية.
الأمر نفسه ينعكس في البحر الأحمر، حيث واجهت البحرية الأمريكية، بكل ما تملكه من حاملات طائرات وبوارج متطورة، تهديدات متصاعدة من هجمات صاروخية ومسيرات بحرية وجوية أقل كلفة لكنها أكثر قدرة على المناورة والإرباك.
صعود أدوات الحرب الجديدة
برزت أدوات جديدة أقل كلفة وأكثر فاعلية: المسيّرات بمختلف أنواعها، الوحدات الصغيرة المرنة، والأسلحة الصاروخية المتنقلة. هذه الأدوات فرضت معادلات جديدة على ميدان الصراع، إذ باتت قادرة على إنهاك جيوش كبرى، وتكبيدها خسائر موجعة، دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة أو حشود ضخمة.
هذا التحول لم يعد مجرد مسألة تكتيكية، بل يعكس تغييرًا عميقًا في بنية الصراع نفسه: من “حروب جيوش” إلى “حروب مقاومة”، أي من معركة بين جيوش جرّارة إلى صراع إرادة يُحسم غالبًا بقدرة الطرف الأضعف على الصمود وإيقاع الاستنزاف.
انعكاسات على العقيدة العسكرية العالمية
إن العقيدة العسكرية التي بُنيت بعد الحرب العالمية الثانية بدأت تتصدع أمام هذه المتغيرات. فالقادة العسكريون في واشنطن يتحدثون اليوم صراحة عن ضرورة “إصلاح الجيش الأمريكي”، ليس فقط من حيث التسليح، بل من حيث بنيته التنظيمية وعقيدته القتالية. وهذا يعني أن الجيوش الكبرى لم تعد مطمئنة إلى جدوى تفوقها التقني والعددي، بل تبحث عن إعادة هيكلة شاملة لتواكب واقع الحروب الجديدة.
إن ما نشهده اليوم ليس مجرد تطوير في أدوات القتال، بل ثورة في مفهوم القوة العسكرية ذاته. لم يعد الضخم والمتطور بالضرورة هو الأقوى، بل أصبح الذكي والمرن، والأكثر قدرة على التكيّف والابتكار، هو الذي يملك مفاتيح النصر. وهذا التحوّل يفتح الباب أمام إعادة رسم خرائط النفوذ والصراع في العالم لعقود قادمة.