صنعاء 19C امطار خفيفة

الرهان على ثورة داخلية: لا احد يريد القفز بالمظلة

هناك اليوم رهان على أن الانهيار الاقتصادي والقمع السلطوي والفساد والإحباط العام من النزاع وأطرافه، في طريقة للتحول إلى غليان مجتمعي يقود إلى ثورة داخلية وشيكة. لكن هذا الرهان -الذي يعكس منطقًا ساخرًا يناقض طبائع الأمور ومنطقها، حيث تتنازل فيه الجيوش عن بندقيتها ومقاتليها لصالح الجوع والفقر والظلم، وتعول على المدنيين وأرباب الأسر للقيام بمهمتها- يحمل قدرًا كبيرًا من التسطيح والسذاجة، ويتجاوز الواقع ويفوت معطياته.

الثورات ليست نوبات غضب جماعية، ولا تقوم لأن الناس محبطين ومقهورين فقط. إنها فعل محسوب المخاطر، وتشتعل فقط عندما تتوفر ضمانات حقيقية أو متصورة ومعقولة للنجاح، ومنفذًا آمنًا للهروب، وفرصة للإنكار. وفي اليمن، حيث تقول التجربة إن الأنظمة لا تسقط إلا عندما تكون قد بدأت تعاني من اهتزازات وترهل داخلي، مازالت السلطات المتعددة، وفي مقدمتها الجماعة الحوثية، فتية ومتماسكة.
والرهان على أن الاحتقان والأوضاع المتردية ستُفجِّر المشهد، يتجاهل هذه الحقيقة، ويتجاهل الآلية الضخمة للقمع والتوسع المهول لأجهزة وأدوات القمع والعنف، والبطش والاعتقالات التي لا تتبعها محاكمات عادلة. كل ذلك يجعل "الخوف" هو اللاعب الأقوى. هذا الخوف الذي لم يعد فقط مجرد شعور، بل أصبح حاجزًا مانعًا للتفكير والمبادرة، ويكرس "استقرارًا قمعيًا"، وتحول إلى نظام مناعة للسلطة. خصوصًا واليمنيون، وفي مقدمتهم القبائل التي طالما اعتمدت عليها الثورات والحركات السياسية، ويراهن عليها الكثيرون اليوم، اختبروا تجارب الخذلان المركب خلال العقد الأخير، وأصبحوا أكثر حذرًا من المغامرة.
الأوضاع الصعبة والقمع المركب والعميق دفع السكان إلى مرحلة "الإذعان التكيفي"، حيث يتكيفون مع القهر وتتراجع حوافز التغيير والثورة وتقتل القدرة على التفكير والمبادرة، ويصبح البحث عن أسباب البقاء اليومي، وتأمين لقمة العيش، وإبقاء الأطفال آمنين، هي الأيديولوجيا السائدة؛ أيديولوجيا النجاة الفردية التي تتفوق على الغايات الجماعية. مرحلة قد يمتلك فيها الجميع أسبابًا للثورة، لكن "نظرية الصرصار" تحكم: عند أول ضغط، يهرب كل فرد إلى زاوية أمانه، بدلًا من التوحد لكسر السقف المشترك.
يزيد من هشاشة هذا الرهان، الظرف الإقليمي المناقض لظروف 2011. ففي ذلك الوقت شكل الإقليم مساحة للتنفس من خلال استعداده لاستيعاب التغيير ودعمه والتفاوض معه. أما اليوم، وبعد عقد من الحروب والاضطرابات التي استنزفت الجميع، فقد تغيرت الأولويات، وبات لدولة مصالح ومكاسب لا تريد المخاطرة بخسارتها أو الإضرار بها، وأصبحت تبحث عن الاستقرار بأي ثمن، حتى لو كان هشًا وقمعيًا. وهكذا فالرهان على الثورة الداخلية يعكس تناقضًا مع حسابات دول الإقليم. والمراهنة على دعم خارجي لثورة شعبية يمنية هو رهان ساذج. والأرجح أن دول الإقليم لن تقدم مثل هذا الدعم أو تسمح لوكلائها المحليين بتقديمه. 
لهذا كله، يبدو لي أن الرهان على ثورة داخلية في اليمن غير واقعي، فالثورة في ظل هذه الظروف أشبه بالقفز دون مظلة. وفي اليمن، لا يريد أحد أن يقفز دون مظلة بالمظلة، هذا ما تعلمناه من تاريخ البلد السياسي. الرهان الحقيقي اليوم هو إما على قوة مسلحة تستطيع فرض سيطرتها على البلاد وتعيد لملمة أشتاتها أو على النضال البطيء والشاق، على تراكم الوعي وعلى الصمود الإنساني في وجه القمع والخذلان المركب.

الكلمات الدلالية