الثورة تغني : إرث الوطن والذاكرة الذي لا يُسلب

تُخلد الثورات بأفكارها وثقافتها وفنها. وفي اليمن، لم يكن التحوّل من الإمامة إلى الجمهورية في خمسينيات القرن الماضي مجرد تحول سياسي، بل كانت ثورة ثقافية وفنية حملتها الأغاني والقصائد الثورية. تلك الأعمال الفنية أعلنت عن نفسها عبر الراديو، ووصلت إلى كل يمني، لتصبح صوتاً وضميراً يُخلّد الثورة في الأذن والوجدان. إنها أغاني فجّرت حلماً نظيفاً لا تشوبه شائبة، وفتحت الطريق أمام جيل كامل لينشد حياةً أفضل.
هل توجد ثورة بلا أغاني..؟
لم تكن الثورة اليمنية حكرًا على عدد قليل من المبدعين، بل شارك فيها كوكبة من الشعراء والفنانين الذين خلدوا أحداثها وأفكارها في أعمالهم. لقد كانت الأغنية الثورية في اليمن، كما في أي ثورة حقيقية، هي صوت الشعب الذي يعبر عن آلامه وآماله. هذه الأغاني لم تكن مجرد كلمات وألحان، بل كانت بياناً جمهورياً يرفض الماضي ويؤسس للمستقبل. إنها الشريان الذي يغذي الثوار بالحماسة، واللسان الذي ينطق باسم الجمهورية، والذاكرة التي لا تموت، تحمل قصص النضال وتضحيات الأبطال من جيل إلى جيل.
فلا يمكن فصل الثورة عن فنونها، ولا يمكن لثورة أن تدوم في الوجدان بدون أن يكون لها لحن يصدح به الشعب.
من شعراء الثورة البارزين:
الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول)، كاتب النشيد الوطني ومؤلف قصائد ثورية مُغناة مثل "دمت يا سبتمبر التحرير" و"سيدوم الخير في أرضي مقيما". وكذلك علي بن علي صبرة الذي كتب قصيدة "انثري الشهب"، والشاعر الكبير عبدالله البردوني بقصيدته "اليوم يا تاريخ قف التي عكست رؤيته للأوضاع. كما قدم الشاعر عباس المطاع بقصائد مثل "مواكب الزحف" و"نحن الشباب".
وغيرهم من الشعراء الجمهوريين الذين قدموا لثورة السادس والعشرين من سبتمبر الكثير من العطاء المتجدد.

أما فنانو الثورة، فيأتي في مقدمتهم أيوب طارش عبسي، أيقونة الأغنية الوطنية الذي تغنى بأعمال العديد من الشعراء وأصبح صوته رمزًا للجمهورية. والفنان علي بن علي الآنسي والفنان محمد البصّير بأغنيته الشهيرة "جمهورية ومن قرح يقرح" .وغيرهم الفنانين الكبار الذين كانو ثورة السادس والعشرين من سبتمبر حاضرةً في أصواتهم المستمرة معنا حتى اليوم.
لم تكن الثورة اليمنية حكراً على عدد قليل من المبدعين، بل شارك فيها كوكبة من الشعراء والفنانين الذين خلدوا أحداثها وأفكارها في أعمالهم.

الأغاني الثورية: ملكية جماهيرية
لقد تجسدت الجمهورية اليمنية في الهوية الجماعية للشعب اليمني بكافة تنوعاته وتشكيلاته الاجتماعية. وإذا كان الشاعر علي بن علي صبره قد قال في قصيدته التي غناها الفنان أيوب طارش إبان وهج الثورة: "يا بلادي يا كبرياء جراحٍ، قد وضعت من نسيجها الكبرياء"، فإن الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان أكد في قصيدته "دمت يا سبتمبر التحرير يا فجر النضال" على أن الثورة ما زالت مستمرة، ليست مجرد حدث عابر في التاريخ. هذه الأغاني لا تذكّر الشعب اليمني بثورته التحريرية فقط، بل تجدد لديه الحلم والأمل في استكمال مسيرتها.
هذا الخلود الفني الذي أعطته الأغاني والقصائد للثورة يتجدد سنوياً وفي كل يوم، خاصة أمام التحديات الأخيرة التي يواجهها اليمن نتيجة انقلاب الجماعة الحوثية الميليشياوية التي تسعى للقضاء على الجمهورية. إن هذه الأغاني ليست مجرد حضور جماهيري، بل هي وعي متجدد تقدمه للأجيال جيلاً بعد جيل، لتفتح الطريق أمام الجمهورية التي تحتاج إلى استعادة كاملة من قبضة الجماعات الإرهابية. هذه الأعمال الفنية التي تزين اليوم صور واحتفالات جميع فئات المجتمع ومؤسسات الدولة هي دليل حي على أن الأغاني الثورية هي ملكية جماهيرية لا يمكن لأحد مصادرتها.
صوت الثورة : ملك الأرض والإنسان والوطن
هذه الأغاني الثورية الجمهورية هي ملك الشعب والجمهورية. فالشاعر الذي كتب قصائدها، قد كتبها من أجل الشعب والدولة والأرض والإنسان وكرامته. والفنان الذي غنى ولحن هذه الأعمال، قد غنى للحرية والعدالة. إن مصير جميع هذه الأغاني هو أنها أصبحت في حكم الملكية الجماهيرية، مع حفظ حقوق كل من ساهم في إبداعها.
فإن مات الشاعر أو الفنان، أو إن أصبح في طريق يعارض مبادئ الجمهورية اليمنية، فإن موقفه لا يمثل إلا نفسه. فالجمهورية هي التي منحت هذا الخلود العظيم لهذه الأعمال الفنية، وهي المالك الحقيقي لها. هذه الأغاني هي ملك لذاكرة شعب، وستظل ملكًا لهم وللأجيال القادمة التي ستأتي إلى الأراضي اليمنية بعد عشرات السنين.
انحراف عن الجمهورية:عن حالة عباس الديلمي
ولكن ماذا يحدث عندما يغير مبدع هذه الأغاني مساره ويخون المبادئ التي تغنّى بها؟ هذا ما يضعنا أمام حالة الشاعر عباس الديلمي.
الذي قدمته ثورة الـ26 من سبتمبر ، كأحد أبرز كتاب الأغاني الثورية، ونال تقديراً كبيراً من الثوار والجمهورية. حيث قد كتب العديد من أغاني الثورة التي نذكر منها :" عن طريقٍ شقه ذو يزن "، وغيرها من الاغاني ، ولكنه ألقى بهذا المجد كله وراء ظهره، عندما اختار أن يصبح رمزاً لتحول سلبي، وتخلى عن مبادئ الثورة والجمهورية التي احتضنت جميع فئات المجتمع، دون تمييز.
هذا الموقف يضعنا أمام سؤال مهم: ماذا يحدث عندما يغير مبدع هذه الأغاني مساره ويخون المبادئ التي تغنى بها؟ هذا ما حدث مع الديلمي، الذي انحاز إلى جماعة انقلابية تسعى للقضاء على الجمهورية التي مجدها في أشعاره.

هنا، يظهر بوضوح أن العمل الفني يمتلك حياة خاصة به منفصلة عن مبدعه. إن خيار الشاعر بالانحياز إلى جماعة إرهابية لا يلغي قيمة الأغاني التي كتبها من أجل شعب بأكمله، ومن أجل ثورة ما زالت مستمرة، ومن أجل جمهورية تحتاج إلى المزيد من التضحية حتى تكتمل.
الأغان الوطنية باقية والثورة مستمرة
هذه الأغاني ليست مجرد أناشيد وطنية ارتبطت بزمن معين، بل هي بيان جمهوري في وجه أي محاولة للقضاء على قيم الحرية. إن محاولة الشاعر عباس الديلمي سحب الأغاني معه إلى معسكر الانقلاب هي محاولة لسرقة ذاكرة شعب بأكمله. هذه الأغاني التي تُشعل الوجدان هي ملك لجميع اليمنيين الأحرار. وحين حاول شاعرها أن يجرّها معه إلى قاع الانحراف، صفعته ورفضت أن تسقط معه. لقد اختار الشاعر أن يغادر من القمة إلى الحضيض بإرادة منه، في حين أن الأغنية ستبقى ملكًا لذاكرة وأجيال تنتظر استعادة الدولة من الغاصبين.
الأغاني باقية، والثورة مستمرة."
لن نكره أغنية هي ملكنا لأن شاعرها قد خان مبادئها. هذه الأغاني التي تشعل الوجدان هي ملك لجميع اليمنيين الأحرار. وحين حاول شاعرها أن يجترها معه إلى قاع البئر المظلم، صفعته ورفضت أن تسقط معه. لقد اختار الشاعر أن يغادر من القمة إلى الحضيض بإرادة منه، في حين أن الأغنية ستبقى ملكًا لذاكرة وأجيال تنتظر الموت متدثرة بالعلم الوطني، على طريق استعادة الدولة من الغاصبين. الأغاني باقية، والثورة مستمرة.