علوٌ قريب

اليوم وبطريقة ما، استطعت العبور من الطريق القديم إلى مكاني الذي لا يعرفه أحد.. الذي لن يصل إليه، بأن جزءًا مني يسبح في النقصان وأنا في مكاني العالي.
ما خفف وطأة الأمر هو أن النقصان ذاك لم يمثل مشكلة.. أعني سرى كل شيء بسلاسة كالمعتاد.
كان هناك نقص في كمال الموسيقى أيضًا.. منخفضة ربما أو عالية لا أعلم حقًا ولا يهمني.
المهم هو أن أكتمل أنا.. وهذا ما حدث.
أفكر في سيدهارتا.. آخر من التقيته، تواجهنا قلبًا بقلب، وتجربة بتجربة.
تعجبت.. وهذا ما أحب أن أشعر به في مكاني العالي.. العجب الغرابة والاغتراب عن كل ما أعرف وحدث.. أعود طفلة نبية.. يذوب لحمي وألمي في العلم الذي يغرق المكان.. الأزرق والبني والشاحب وصدى آلاف الحناجر.. ذاكرة الأرض التي يحملها الهواء..
ربما هذا هو النقصان الذي شعرت بأن يدي تسبح فيه..
فهذه هي المرة الأولى التي أتحسس فيها ذاكرة الأرض في الهواء.
سيدهارتا يقول إن لا وجود للزمن في النهر.. وأنه هو "السيدهارتا نفسه" نهر.
لم يلتقِ سيدهارتا بالهواء على الأرجح.. فهو أيضًا كالنهر.. لا وجود للزمن فيه.. ولم يلتقِ بي الآن متلبسة بالمادة والكلمة، وإلا لعرف أنني أيضًا هواء لا وجود للزمن فيَّ.
الهواء الآن خفيف رغم ثقل الذاكرة.. خفيف وإلا ما استطاع احتضان الأجنحة.. ولا سبحت فيه النوتات الموسيقية.. خفيف هذا الهواء لأنه بلا جذور.. مثلي تمامًا.
محرر من الأربطة.
.
لكن شيئًا من الحنين ينتابني الآن.. حنين لشيء مني.. لم أعرفه قط.. لم ألمسه قط.. شيء سيبرر زحام هذه الأصوات كلها.. سيخرجني منها.
سيبرر شفافية يدي التي تتخلل العلم المنتشر حولي، وستعينني على تحمل كثافته.. وتفادي خرمشات أظافره.
شيء كالملائكة.. سيعلمني اللغة الأولى، التي تفهمها الشمس والقمر والعصافير وشراييني وأوردتي.. باختصار كل ما لا يفهمني حين أخاطبه بلغتي الفقيرة.. لغة الهواء فقط.
ثمين هذا الهواء، لكنه أيضًا للجميع.. كلنا للجميع، لكن ليس الجميع يدري.. سيدهارتا عرف إذ كان نهرًا بلا زمن عرف.. وأنا إذ إنني هواء عرفت أيضًا.
بشرى