صنعاء 19C امطار خفيفة

محاولة اغتيال ذاكرة وطن... تعز

لم تُغتل تعز بالرصاص وحده، ولا حوصرت بالقذائف فقط؛ بل خُطّت ضدها خطة طويلة المدى بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي، استهدفت روحها قبل عمرانها، ووعيها قبل اقتصادها.

تعز لم تكن مجرد مكان على الخريطة، بل كانت مصنعًا للذاكرة والوعي والحرية؛ ومن هنا جاء السعي المستمر لتفكيكها وإضعافها، ليس لقتل مدينة فحسب، بل لطمس جزء من ذاك الوطن.
في البداية ظهر الاستهداف في لباس اقتصادي بحت: حُوصرَت شبكاتها الإنتاجية، تُرِكت مصانعها ومرافئها لتذبل، وأُهمِلَت بنيتها التحتية عمدًا حتى تصبح رهينة الاستيراد والاستهلاك. كانت المصيدة واضحة: تحويل مدينة منتجة إلى سوق مستهلكة، تضعف فيها القدرة على الاستقلال الاقتصادي، فتفقد بالتدريج موقعها السياسي والثقافي.
لكن القمع الاقتصادي لوحده لم يكن كافيًا. فقد وُجّه الضرب الأقوى إلى الوعي الجمعي. تعز، التي أنتجت أدب اليمن ومسرحه ونخبه الفكرية، أُخضعت لحملات تفريغ ثقافي: إثارة الانشقاقات الأيديولوجية، تحويل الدين إلى مناخ للصدام بدلًا من فضاء للتعايش، وتشويه دور المثقف وتحجيمه. وهكذا انزوى الصوت الحر، وتحول المشهد الثقافي إلى فراغ سمح لقوى استبدادية أن تملأه.
التغيير الديموغرافي كان خطوة متعمدة أخرى. سياسات تهجير، استقطاب جماعات، وتغيير معالم الحيّز المدني، استهدفت تفتيت النسيج الاجتماعي. حين يصبح أبناء المدينة أدوات في اللعبة، يتبدل الحبل بين المواطن وبلده من رابط حماية إلى أداة نزاع. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية: السلاح يصبح وجهًا من وجوه الانقسام الداخلي.
المشهد اكتمل بإقصاء النخب؛ قادة فكر، وكُتّاب، وحكماء طُردوا أو اضطروا إلى الرحيل. بغيابهم خفت صوت الاعتدال، وبرزت فراغات ملأتها أجندات متطرفة. المدن التي تفقد صمام أمانها الفكري تُصبح ساحة لاحتكاكات لا تُحسم بالعقل، فتتكاثر فيها العنفية وتضعف فيها المؤسسات.
ومع الحرب والحصار تحققت ذروة المشهد القاتل: القصف، والتجويع، والدمار أصبحت أدوات الكشف العلني للمشروع الذي بدأ بعنفٍ هادئ. لكن رغم كل هذا العنف المادي، بقيت تعز -بطبيعتها المقاومة- تُقاوم كشلالٍ لا يستسلم. تاريخها يثبت أن المدن التي تنحت ذاكرةً قومية لا تُمحى بسهولة؛ حتى لو كُسِرت واجهاتها، يبقى في بعدها الثقافي جذور تقاوم.
الاعتبار هنا يتجاوز البعد المحلي. اغتيال تعز هو اغتيال للعقل اليمني الحر، ولحقل الذاكرة الذي يوحد التجارب ويصوغ المستقبل. من يهاجم مدينة مثلها لا يهاجم رقعة أرض فحسب، بل يحاول طمس نموذج أملٍ يُشخّص تفرد الوطن، ويمنح الناس سببًا للاستمرار. لذلك فإن الدفاع عن تعز ليس نزاعًا إقليميًا أو مدينيًا فحسب؛ إنه دفاع عن فكرة بلاد ترغب في التماسك والكرامة.
تعز قد تُكسر واجهاتها، لكنها لا تُمحى من الذاكرة. من يحسبون أنهم سيمحونها عبر الرصاص والغياب والمناخات المضادة، يخطئون الحساب؛ الوعي يتجدد حيثما وُجد من صنعه، والمدينة التي صنعت جزءًا من حلم اليمن، ستبقى شاهدة على ألمٍ قديم، وعلى إرادةٍ مستمرة في النهوض.

الكلمات الدلالية