صنعاء 19C امطار خفيفة

الفن والإبداع الحر أنضج الوسائل لإخماد أهوال الحرب والموت

الفن والإبداع الحر أنضج الوسائل لإخماد أهوال الحرب والموت

الحرب وويلاتها تطمر الأحلام، وتختزل في الذاكرة الجمعية صورًا شتي من البؤس والحرمان، تقتل أشياء جميلة في ذواتنا، تظل الفواجع متلاحقة كأمواج البحر الهادر تبتلع الغد المنتُظر، إنها لا تفعل بنا إلا بما يجنيه البعض منا في حق نفسه وحق الجميع، ثم نأتي لنخفف من وطأة الموت المحدق، لماذا لا نمنع الحرب منذ البداية؟ بواعث الأمل هنا قد تكون مفيدة في التخفيف عن الأوجاع المسترسلة، أليست القصيدة إحداها، والموسيقى والرقص واللوحة أيضًا، إنها نوع من المقاومة، لكن بشكل مختلف'، في تلطيف الجو المشحون بروائح البارود وأزيز الرصاص.

هناك اختلاف بين الريشة والبندقية، كلاهما يطلقان في القلب موتًا وألمًا وحياة، دفاعًا وانتهاكًا، ألوانًا نارية ولهيب حرب على لوحة فنان أو في جبهة قتال. هكذا يقول أحدهم، ويضيف آخر أكثر من ذلك.. فيقول الأديب والشاعر عبدالرقيب الوصابي، في هذا الصدد، إن للفنون الأصيلة والإبداع الحقيقي بمختلف التجنيس والاتجاهات، أثرًا حقيقيًا وبصمة لا تمحى في توجيه دفة الحياة إلى بر الأمان، والارتقاء بحال الإنسان إلى أرقى مستوى يليق به، ولهذه الفنون والكتابات الإبداعية توجه تطلعي يحسب له الساسة ألف حساب، وعلى ضوئه تتم صياغة القرارات والسياسات الكبرى، طبعًا أتحدث -هنا- عما ينبغي عليه أن تكون الفنون والإبداع، أو على اعتبار ما كانت عليه هذه الفنون والإبداع في الزمن الأصيل، حين كان للكلمة والمعنى قداستهما في تشكيل وجدان الإنسان، وفي تجميل وجه الحياة.
ويؤكد الوصابي بالقول: لقد استُخدم العديد من الفنانين والأدباء من الفن الخالد وإبداعهم الأصيل في معارضتهم ومناوأتهم للحرب، واتخاذ مواقف حقيقية للوقوف في وجه الحرب وإدانة سماسرتها، عبر التعبير عن المعاناة الإنسانية التي تسببها الحروب، كما ساعدت الفنون والإبداع الحر في توثيق ذاكرة الحرب والحفاظ عليها، رغبة في منع تكرار حصول هذه المآسي مستقبلًا.

إدانة للحرب

تتجلى أهمية الفن والإبداع الأصيل حين نعلم أن مجموعة من الفنانين والأدباء كانت لهم بصماتهم في إخماد الحرب العالمية الثانية على شاكلة "بابلو بيكاسو" ولوحته "غويرنيكا" التي أدانت بوضوح الحرب والعنف، أو الفنان الألماني "جون هارتفيلد" الذي انتقد النازية انتقادًا لاذعًا باستخدامه للفن وانتصاره للحياة، وقريب من ذلك صنيع المخرج السينمائي الروسي "دييغا فيرتوف" الذي استخدم أفلامه لإدانة الحرب وتأثيراتها على الشعب السوفيتي.
ويشير الأستاذ الوصابي إلى أن "الإبداع الأصيل والفن الحر الخالد يقدس الحياة، ويمجد العمران، وينشد بناء الحضارات، ولكنه قبل هذا وبعده يصب جل اهتمامه للاعتناء بالإنسان باعتباره أساس التنمية والهدف المرجو من وراء استدامة الحياة.

تلازمية أزلية

يعتبر الفنان والموسيقار جابر علي أحمد أن "الفن والموسيقى ظاهرة إنسانية، وهما متلازمة اساسية بين الإنسان والفن". ويشير إلى "أن هذا ما يميز فن الموسيقى عن باقي الفنون، ومن هنا تأتي حقيقة التلازمية بين الإنسان والموسيقى، وهي تلازمية شدت إليها الفلاسفة منذ بداية نشأة الفلسفة". ويضيف: "كان لا بد أن تصبح الموسيقى موضوعًا للبحث والتأمل".
وبالعودة إلى موضوع السؤال دعني أثبت هذه الملاحظة، ألا وهي أن ظاهرة الموسيقى باعتبارها ظاهرة ملازمة للإنسان، تتمظهر أحيانًا كحصان طروادة. وقد فطنت لذلك النخب المستعلية لتكرس فوقيتها الاجتماعية، وعلى نحو تبدو فيه أحيانًا كأنها تناقض نفسها. وهذا ما يلاحظ في مواقف أنظمة الاستبداد العربية، إذ تبدو أحيانًا كأنها ضد الموسيقى لغرض في نفس يعقوب، وأحيانًا تكون مع الموسيقى لذات الغرض.

علاقة الموسيقى بالحروب

من الواضح تاريخيًا أن لكل جيش محارب موسيقاه التي يستعين بها في رفع شدة بأسه ضد عدوه. هذا ما يتعلق بالحروب الشاملة، على أن ثمة حروبًا أخرى تكون أطرافها متداخلة وطنيًا واجتماعيًا كالحروب الأهلية الشاملة أو المحدودة كالحروب القبلية. في هذه الحالة يكون لكل طرف محارب أسلحته الموسيقية التي يشد بها أزر جماعته أو قبيلته، وفي هذه الحالة غالبًا ما تكون التعبيرات الموسيقية شديدة الارتباط بالجماعة المعبر عنها.
ويشدد جابر على أن "في مثل هذه الحالة لا توجد موسيقى خارج احتياجات القبيلة أو الجماعة التي في حالة حرب مع طرف آخر، فنوع الحرب هو الذي يحدد غايات الفعل الموسيقي وأدواته". ويضرب مثلًا على ذلك بقوله: "الفنان المصري سيد درويش اكتسب قيمته الفنية من كونه فنانًا سخّر موهبته الموسيقية لقضايا الشعب المصري في صراعه ضد المستعمر البريطاني، أما في الصراعات الاجتماعية فغالبًا ما يتخذ الفنانون مواقف تبدو محايدة. وإذا شذ فنان عن هذه القاعدة فغالبًا ما تكون عواقبه وخيمة، وبخاصة في أنظمة الاستبداد، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الحاكم"!

نقطة فاصلة

الإعلامي خالد المنيفي يرى بأن اندلاع أية حرب يعني أن أطرافها في غالب الأوقات قد وصلوا لنقطة، قرروا عندها استخدام لغة البارود والتخلي عن لغة العقل والتروي.
ويشير المنيفي إلى أنه "مع اندلاع الحروب يعمد كل طرف إلى محاولة إثبات عدالة أهدافه، مع أن الحروب غالبًا، وليس دائمًا، لا تحمل في طياتها عدالة من أي نوع، وإنما هي تكريس لأطماع الساسة باستخدام الشعارات البراقة والكاذبة، عدا الحروب التي تمثل دفاعًا عن الوطن ضد أي اعتداء خارجي، فالدفاع عن الوطن وسيادته شرف عظيم، أما الحروب والمعارك الداخلية بين أبناء البلد الواحد فأمرها مختلف، وهذا النوع من الحروب يؤدي، بالإضافة للدمار والقتل، إلى حدوث استقطابات كبيرة من كل طرف للجماهير، لتردد شعاراته، وتقف في صفه، فينجذب الكثيرون وراء الأطراف المتصارعة من دون وعي، ما يولد تهشيمًا كبيرًا لبنية الوطن الواحد جراء الفرقة ما بين أبنائه".

لغة هادئة

هنا يأتي دور المثقف والإعلامي والأديب لجسر الهوة ما بين أطراف الصراع أولًا، ثم التوجه إلى الجماهير برسائل التوعية التي تتضمن انتماء الجميع لأرض واحدة، وحملهم ثقافة مشتركة يفترض أن تجمعهم، لا أن تفرقهم أحقاد السياسة وأطماع الساسة، عبر استخدام لغة هادئة واعية ومتزنة تطفئ نيران الخطاب الشعبوي المتجهم، والذي يريد إسكات الصوت الآخر تمامًا، لا الحوار معه بغية الوصول إلى نقاط مشتركة لبناء وطن يتسع للجميع.
ويختتم المنيفي حديثه بدعوته إلى تشجيع لغة الحوار وتشجيع التسامح، ويصفها برسائل سلمية يضطلع بها الإعلاميون والمثقفون والفنانون، للوصول إلى النتيجة المرجوة من أجل وطن ينعم فيه الجميع بالسلام والعدالة والمساواة.

الكلمات الدلالية