الزميل الشهيد عبدالعزيز الشيخ في صدارة روّادٍ لا يموتون في حياتنا
عبدالعزيز الشيخ ذلك الاسم الجميل والإنسان النبيل، لم يكن لي مجرد زميل، بل أخٌ وركنٌ وثيق، أجده بجانبي في أشد الأزمات وأعظم الشدائد والمصائب، يبذل الغالي والرخيص مساندًا وداعمًا ومرشدًا وموجهًا، يشاركني أفراحي وأحزاني، وأعيش معه حالة صفاء ذهني، وسعادة حقيقية.
كان بلسمًا لكل جراحٍ يصيبني ومبعثًا لكل بهجة تغمرني، ولم تمضِ 24 ساعة على تواصله الأخير معي، حتى فجعني وأفزعني وسبّب حزني وكمدي بنبأ استشهاده هذا اليوم، رحمه الله.
ثلاث ساعات أنا وزملاء كثر قضيناها في عملية بحث مستمرة وحرجة تلت العدوان الصهيوني الغاشم، كلٌ يسأل الآخر عن مصير عبدالعزيز الشيخ، حبيب الجميع، ولا أحد يعرف ماذا حل به؟ بخاصة وأننا نعلم أنه يكون في مثل هذا الوقت يوميًا في مكتبه بالتوجيه المعنوي، نسأل الله وندعوه أن يكون غير متواجد هذا اليوم لأي سبب من الأسباب، نتمنى أماني مستحيلة، نلهث بعد أنباءٍ بعيدة تخبرنا عن سلامته من هذه المجزرة المروعة، التي يبدو أنها لم تستثنِ أحدًا من زملائه وفريق عمله المسائي في شعبة الإذاعة والتلفزيون بالتوجيه المعنوي، نسأل ونتابع ونتصل وسط أمل ورجاء محدودين بسلامته، لتتلاشى تلك الأماني قليلًا قليلًا، حتى جاءنا الخبر الفاجعة، متوافقًا في فحواه لدى عدد من الزملاء، نبيل وإبراهيم ومحجوب، مضمونه الشيخ استشهد ونقلت جثته إلى المستشفى العسكري، تبادلنا الخبر بأصوات خافتة مكلومة، اختلطت بالحزن والأسى والبكاء والدموع، حينها كنت أتلقى كمًا هائلًا من الرسائل النصية والكتابية عبر الواتس من الزميلات والزملاء الآخرين، يسألونني، ماذا استجد في حالة أخينا عبدالعزيز الشيخ؟
وكنت قبلها أخبرتهم أنه لايزال تحت الأنقاض، رددت بقدر ما أستطيع على البعض بعظم الله أجرنا وأجركم، أخونا عبدالعزيز شهيد في جوار ربه، على يد الصهاينة أعداء الله ورسوله وأعداء الأمة والعالم والإنسانية، وعلى مثله تبكي البواكي، مع أنه أحسن حالًا من كثير يموتون في فراشهم أو برصاص إخوانهم في الوطن والدين، فشهادته حقيقة لا جدال ولا شك حولها، لقد استشهد من أجل الدين والعرض وغزة وفلسطين، فهنيئًا له الشهادة، وأسف علينا البقاء في حزن على غيابه ورحيله المبكر عنا.
عبدالعزيز الشيخ المعروف بصفاء قلبه، ونقاء روحه، وحسن نيته، وكرم يده، ونور محياه، وجمال ابتسامته، وروعة حديثه، وصدق مودته، وعذوبة مزحه ومداعبته، أنساني أحبابًا وخلانًا كثرًا وتربع في الصدارة مكانة وحبًا وشعورًا ووجدانًا داخل قلبي.
قد أكون سعيد الحظ بين كثير من الزملاء، في أنني كنت معه قبل ثلاثة أيام، نقضي وقتًا جميلًا لساعات في ذهاب وجلسة مقيل في منزل الزميل العزيز عبدالرحمن العنسي، لنعود منها معًا في ساعة متأخرة من ذاك المساء، وفي مفرق زقاق يؤدي إلى منزله بحي مذبح ودعته على أمل اللقاء مرة أخرى، ولكن قدر الله حال دون أي لقاء آخر بيننا.

الشيخ عبدالعزيز بحزني وقهري عليه فور تأكدي من استشهاده، لم يسعني بيتي لأخرج تائهًا مفزوعًا لا أدري أين أذهب؟ علّي أجد من يواسيني، حتى استقررت في منزل أخي الأكبر، لأبلغه بالخبر، وأتحدث إليه عن أخٍ آخر لم تلده أمي، غادرني الليلة.
وكان قبل ساعات لا أحصي عددها قد تحدث إليّ يذكرني بألا أنسى -ما طلبه مني في آخر لقاء لنا- أن أتولى حل مشكلة متعلقة بزوجته مع إدارة المدرسة التي تعمل فيها، من خلال عملي في وزارة التربية والتعليم، فقلت له لا تقلق لن أنسى ولن أتاخر، سأحلها ولو أذهب بنفسي للمدرسة، فتلك مهمتي وواجبي.
أعود أيامًا للوراء لأتذكر حالتي عقب الاستهداف الصهيوني لحكومة صنعاء الأسبوع قبل الماضي، حيث كنت حينها في غاية القلق، أريد أن أطمئن على سلامته، لكن للأسف لا يمكنني الاتصال به -حسب التعليمات الأمنية- فظللت يومين بحالة من القلق، إلى أن اتصلت به فرد عليّ أهلًا يا حاج محمود كما يحلو له دومًا مناداتي، مضيفًا بماذا تأمر؟ قلت له: لا شيء، أردت فقط أن أسمع صوتك وأطمئن على سلامتك من الحادث المأساوي للحكومة، فقال لي: أنا لا أحضر اجتماعات الوزير أو رئيس دائرة التوجيه المعنوي، فكانت سعادتي بالغة بذلك، لأودعه وأنهي المكالمة بالاتفاق على اللقاء الأخير الذي تحدثت عنه بدايةً.
وقبلها بشهر تقريبًا أتذكر يا عبدالعزيز أنك أرسلت لنا كمبحوثين الاستبيان الخاص بدراستك المسحية لتعبئته في طريقك للحصول على درجة الماجستير، والتي لم يتبقّ لمناقشتها سوى قرابة شهرين، وإن كنت بلا شك تستحقها بجدارة بكفاءتك وقدراتك العلمية والبحثية والصحفية منذ فترة، ها أنت تغادر قبل أن تحصل عليها، وهنا أتساءل ألا يجدر بكلية الإعلام وجامعة صنعاء على الأقل أن يمنحاك إياها بعد رحيلك، كاستحقاق كنت على وشك إنجازه، مع أنك بحق تستحق شهادة الدكتوراه.
فمثلك في حياتنا أناسٌ قليلون مبدعون ومتميزون، لا يفارقون خيالنا، ولا ننسى مدى السنين والأيام، منجزاتهم وذكريات وأوقات ومناسبات جمعتنا بهم، نعيش معهم معظم تفاصيل حياتنا اليومية، من ذكريات ومواقف وأوقات جميلة باذخة السعادة، عبدالعزيز الشيخ يتصدر هؤلاء بالنسبة لي، لقد ظلت في حياته وستبقى إلى ما لا نهاية بعد استشهاده.
سأظل أردد وأستعيد حسناته وجم أفضاله وأفعاله الحسنة والخيرة والعظيمة، وأدعو له باستمرار، حتى ألقاه في الحياة الباقية.
لقد توافقت مع عبدالعزيز الشهيد في كثيرٍ من العادات والطباع والظروف والأماني والرغبات والحياة الاجتماعية والأسرية والأحاسيس المتشابهة وأنات الضمير المتألم على اليمن وأوضاعه ومستقبله، فكنّا كروحين حلتا بدنًا.
اليوم أكتب هذه السطور وأنا مازلت غير مصدقٍ أنني قد فقدت أخي عبدالعزيز الشيخ، وأنني لن ألقاه أو أتحدث إليه مرة أخرى، تتراكم في ذهني أمانٍ وتمنيات طفولية بنبأ ينتشلني من حزني وكمدي عليه، يخبرني أنه مازال حيًا، وأن كل ما وصلتني من أخبار وتأكيدات على استشهاده كانت غير صحيحة، إلى غير ذلك من الهواجس والخواطر التي أعلّل بها نفسي، لأخرج بها من حالة الحزن الموجعة على فراقه، ولكن، ماذا سأفعل عندما أعود إلى رشدي، وتذهب كل هذه الأوهام من خيالي؟
إن مصابي لكبير وألمي لشديد وجراحي لبالغة، بفقدانك يا أخي ويا توأم روحي أيها العزيز نفسًا والشيخ صفةً وقولًا وفعلًا، لقد كنت اسمًا على مسمى، وحالة حب وود وألفة لا تنسى أو تغمرها الأيام والسنون والظروف التي تنتظرني بحلوها ومرها.
بأي وقعٍ سيستقبل مجتمعك ومحبوك وكل قريب لك نبأ رحيلك؟
وكيف سيكون حال مجموعة القطط التي كانت تنتظرك في حارتك يوميًا وأنت تعود لها ببقايا أكلك من دجاجٍ وعظام كنت تجمعها من طاولة الأكل بعد انتهائنا من طعام الغداء في كيس لتحملها إلى قطط حارتك. يا لحزني عليها، وهي تطيل الإنتظار ولا تراك مقبلًا عليها؟
لا شك أنها ستبكيك كثيرًا كما نحن، وماذا سيكون حال البشر والحجر والشجر من حولك وأنت تغيب عنهم فجأة برأفتك وحنيتك وحبك؟
لا شك سيتألمون وسيبكونك للأبد، لا نحن فحسب.
سيرحمك الله بحزنهم ودعواتهم، وسيسكنك فسيح جناته بأخلاقك وحسن تعاملك معهم، وجميعنا على فراقك لمحزونون، فسلام على روحك يوم ولدت ويوم استشهادك ويوم تبعث حيًا مع الأنبياء والصالحين والشهداء، ونسأل الله أن يريح قلبك، ويريحنا بزوال هذا الكيان الصهيوني المجرم والغاشم عن أمتنا ووطننا، وإنا واثقون بنصر الله أيها الإنسان النبيل والصديق الشهيد، وسلام عليك في الأولين والآخرين إلى حين نلقاك في جنة الخلد بإذن الله الغفور الرحيم.