أبناء السرّ الذي نجا من صاحبه
لو أنك اعترضت درزيًا وسألته: "هل أنت درزي؟"، فسيتفحص ملامحك أولًا كما لو كنت تنتمي إلى محكمة تفتيش جاءت متأخرة ألف عام، ثم يجيبك: "نحن أهل التوحيد".. لا، ليس ذلك التوحيد الذي يدرّسه الفقيه في الجامع، ولا ذاك الذي يتباهى به المتكلمون في مجالس العقيدة.
نحن أمام توحيد آخر غامض، عميق كمغارة أفلاطونية، أقرب إلى تمرين تأملي في معنى الإشارة لا في ظاهر العبارة.
التسمية التي نحشرهم فيها "الدروز" ليست خيارهم، بل سقطت عليهم كما يسقط الاسم على مجهول الهوية في رواية كافكا.
أصل الحكاية أن داعية متهورًا اسمه محمد بن إسماعيل الدرزي، قرر أن يسبق الوحي بخطوة، ويعلن ما لم يُعلَن، فلفظته الجماعة واتهمته بالزندقة، ثم رمته خارج أسوارها كما يُرمى حجر في بئر نسيان.. لكنه، ومن سخرية التاريخ، بقي الاسم الوحيد الذي التصق بهم كقدر لا فكاك منه.. فمن طردوه بالأمس ورثوا اسمه اليوم.
ربما هي لعنة الأسماء أو سخرية اللغة، أو لعله ثأر سردي من طائفة لم تشرح نفسها بما يكفي، ولم تردّ على الخطاب التاريخي بغير الصمت والتقية.
يقول نيتشه: "الأشياء العميقة تكره الوضوح"، ولعل هذا ما يفسّر كيف ظلّ الدروز منذ تأسيس مذهبهم الباطني في أحضان الدعوة الفاطمية كجملة غامضة في كتاب مفتوح، لا يفهمها إلا من عبر منطق الغموض إلى غموض المنطق.
لا جنّة في عقيدتهم ولا نار تهدد المارقين.. لا ترهيب بالسواك ولا طمأنينة بلبن الجنة.. لا فتاوى تقسم ظهر الذباب ولا صراخ في تفاصيل الطهارة.. بل هناك "حدود خمسة" كأنها آلهة يونانية متنكرة، وهناك تأويلات باطنية تشبه زهورًا تفتحت في العتمة.. هناك الفلسفة، والرمز، والهرمسية، وتوليفات روحية أعيت فقهاء الخطابة، وأربكت متعقبي العقيدة.
قرأوا أفلاطون أكثر مما قرأوا البخاري، وتأملوا في الإشارات كما يتأمل شاعر صوفي في بياض الصفحة.. لا يقيمون شعائر التبشير ولا يفتحون بابًا للالتحاق بجماعتهم، ليس من باب النخبوية، بل لأن الطائفة عندهم ليست ناديًا اجتماعيًا، بل مسار باطني معقّد يبدأ من الولادة ولا ينتهي إلا بحمل "العقل الأول"، ذاك السر الذي لا يُكتب، بل يُعاش.
في زمن المذابح الطائفية والخطابات اللاهثة وراء السيطرة، اختار الدروز الانسحاب من المعركة.. عاشوا في الجبال، لا لأنهم رُحّلوا قسرًا -كما يحدث في الروايات الساذجة- بل لأنهم اختاروا العزلة كخيار ميتافيزيقي بعيدًا عن صخب الحاكمية ودهاليز الإمامة.
حين كانت الإمبراطوريات الدينية تكتب خرائطها بالدم، كانوا يرسمون خطوطهم بالحذر.. بين فوضى الخلافة وصمت التصوف اختاروا أن يكونوا "لا أحد" في عالم مكتظ بـ"الكل".
إنهم كالماء في راحة اليد كلما ظننت أنك أمسكتهم، أفلتوا... تاركين فيك إحساسًا بأنك لم تفهم شيئًا، وهذا بالضبط ما يريدونه.. ديانتهم خريطة بلا إشارات، وسلوكهم كناية في عالم لا يفهم إلا التصريح.. إنهم إهانة مكرّسة للعقل التبسيطي، وعبث ناعم بمفهوم الطائفة في زمن الجموع الصاخبة.
هل هم مسلمون؟ يقولون نعم. لكنهم مسلمون لا يظهرون في كتب الفقه، ولا يحضرون في قوائم الغزوات، ولا يرفعون شعارات الهوية.. يشبهون الإسلام بقدر ما يشبه الضوء الشمس، شيءٌ من الأصل، لكن لا يراه الجميع بنفس الطريقة.
من لا يفهمهم يغضب منهم، ومن يحاول تفسيرهم يضل عنهم، ومن يريد ضمّهم يصطدم بجدار اللامبالاة.
الدروز أو "أهل التوحيد" كما يسمون أنفسهم.. باختصار تجربة فكرية خاضها التاريخ، ثم نسي كيف يكررها.