ألغام وأرقام
حين يصبح موضوع ما يعرف بمخصصات الإعاشة الدولارية لعدد من اليمنيين في الخارج، ويصل عددهم إلى ما يقرب من 10 آلاف شخص، موضوعًا للتندر والحسرة على متناقضات وضعنا البائس اقتصاديًا، بينما تهدر إمكانات البلد خارج أوعيتها المفيدة، بل تتسرب تاركة وراءها روائح تزكم الأنوف...
حيث يبدو كما ورد بمقال كتبه الدكتور حسن أبو طالب، وهو من المتابعين للشأن اليمني، بجريدة "الأهرام" عدد الاثنين 25 أغسطس 2025، حيث يشير إلى أن ثمة مبالغ فلكية تمنح للبعض دون أن يكونوا تابعين لجهاز الدولة، ويرى أبو طالب بأن ثمة خلافًا جوهريًا نشب مؤخرًا حول هذا الموضوع بين كل من رئيس الوزراء المصر على وقف صرف تلك المخصصات الدولارية باعتبارها غير مستحقة، وموقفه هذا يتصادم مع موقف كل من الدكتور رشاد العليمي، رئيس المجلس الرئاسي، ورئيس مجلس الشورى، ووزراء آخرين في الحكومة، يرون بأن تلك الإعاشات حق مكتسب.
هنا نجد اللغم القابل للانفجار إن لم تطفأ نيرانه، إذ البلد وشعبه في غنى عن المزيد من المتفجرات التي قلبت كيانه واستقرار حياته رأسًا على عقب، وهو ينتظر بفارغ الصبر نهاية المطاف للنهج الذي تم عبوره عبر إزاحة العديد من الألغام التي تمت زراعتها واستزراعها لتخرب الوضع العام في البلد، زراعة لم تنتج إلا نباتات سافانا مدمرة أكلت الأخضر واليابس، وتركت الأرض يبابًا، حيث لا إنتاج ولا اقتصاد ولا صادرات، ولكن بلاد معلقة في الهواء، والفراغ الاقتصادي وأسواق مضاربات تأتيها بيوت صرافة توالدت كحشائش السافانا الضارة، تعبيراتها الفجة كانت المزيد من الضغوط على عملة وطنية تركت في العراء يتلاعب بها التضخم من جانب، وأدوات الفساد التي تسيّر الشأن العام المرتبط بحياة الناس، ثم المضاربات التي عاثت بها فسادًا من قبل أساطين بيوتات الصرافة التي لم تنزل من السماء، لكنها توالدت ضمن بيئة خصبة شكلت لها مرتعًا، فطاب لها المقام لتنسل خفية وعلنًا كهشيم يحرق ويلغي ضوابط التعامل بسوق العملة، ليجد البلد وشعبه عملته طريحة الفراش تعاني النزع الأخير يهلك معه الراتب الهالك هو أيضًا، حتى كانت يقظة كيف توالدت؟ وكيف استعادت الوعى؟ كيف أدركت ما ينبغي فعله؟ وكيف قيض لها مؤخرًا أن تجد بابًا ومخرجًا كان مغلقًا، ثم فتح لإنقاذ الريال المنازع واقتصادها العليل قبل أن يلقى ربه، لكننا سنجد ضمن حلزونيات ما يجري داخل أروقة القرار والسياسة وتضارب المصالح... أين يكمن مربط الفرس؟ هل لدينا أو لدى من يدير شؤون بلادنا، والكل به عليم إما صامت أو تابع أو مستفيد، وغالبية تبحث عن حل حقيقي لقضاياها.
وهنا الطامة الكبرى التي ستقصم ظهر، إذ إن بعير الإصلاح الذي استطاع فجأة بقدرة قادر النهوض، وقد ظل جملًا باركًا تمكن من النهوض عبر وسائل ليس لها علاقة بالمعنى الكامل المتعارف عليه في تجارب الأمم المتعثرة اقتصاديًا لا فكاك من اتباعها عبر نهضة حقيقية تتمكن عبر نهج ورؤية كاملة أتيحت لها مناخات سياسية وأدوات عمل وسياسات علمية تجير لنجاحها كل وسائل النجاح التي لا تخفى على كل ذي عقل اقتصادي لبيب، وخبرات الأمم والشعوب متاحة، كما أن بالبلد خبرات يمكنها الإسهام بهذا المعترك، المهم أن يتاح لخبرات البلاد الإسهام والمشاركة بعيدًا عن الحسابات والحساسيات الضيقة، وما أكثرها في بلادنا.
وإذا كان البلد وشعبه رحبا بالخطوة المتمثلة بسياسات الحكومة والبنك المركزي التي أدت وقادت لبروز بشارات أمل عبر نجاحات أعادت وتعيد إلروح للعملة الوطنية الريال والأمر كذلك يستدعي المزيد من التوافق على كل المستويات الناظمة للشأن العام لضبط إيقاع موحد، وليس كما يشاع بأن خلافًا قد نشب بين أعلى هيئتين بالسلطة التنفيذية بين الأخوين رئيس مجلس الرئاسة ورئيس الوزراء... ونأمل جدًا ألا يكون مثل هذا الخلاف صحيحًا، وأن ما نما من معلومات للأخ العزيز حسن أبو طالب كاتب المقال المشار إليه، ليس دقيقًا أيضًا... أما إن ثبت عكس ذلك، فقل على الدنيا السلام، وسندخل في نوع من منولوج قاتل يضيف مزيدًا من الإرباك لحياة شعبنا وبلادنا... إذ نحن بأمس الحاجه لتجاوزها لنمضي معًا وفق نهج متكامل يتسم بـ:
1. الشفافية الكاملة.
2. عدم التضارب بين مقرري السياسات وهيئات التنفيذ.
3. عدم التلكؤ في إعمال مبدأ الشفافية والمحاسبة، وعدم قطع الطريق على أي مقترحات تسهم في محاصرة وإلغاء منابع إهدار المال العام... تمامًا كما يتضح من موضوع صرف الإعاشات الهائلة وفق الكشوفات التي تم تسريبها، والتي تحتاج إلى تأكيدها أو نفيها، لأن ما ذكر بها من مبالغ مهولة يشيب لها الولدان.. إذ لا ينبغي تمريرها واستمرار صرفها إلا وفق الضوابط التي تترجم وتتفق مع ركيزة توجه حقيقي للإصلاح الشامل المنشود والمدعوم وطنيًا على كافة الصعد إذا ثبتت معاوله.
أختم بالقول كفانا ما يزعج استقرار بلادنا من ألغام تتفجر هنا وهناك.. كفانا لغم الحوثي المتوسع مداه، حيث ينبغي أن تجير لأجل التعامل وطنيًا معه لتجاوزه كانقلاب على الدولة، ومعه أي تغول على سلطة الدولة المطلوب استعادتها مدخلًا لعلاج كافة ما تعانيه، وضرورة أن تجير لأجل تحقيقه كل إمكانات الشرعية والتحالف، وبدعم كافة القوى الوطنية، للوصول لواحة الهدوء والاستقرار، لمعالجة كافة القضايا الملتهبة، وعلى رأسها ملف القضية الجنوبية أو كما سماها الدكتور حسن أبو طالب قضية فك الارتباط بين الشمال والجنوب، وضمن هذا التوجه تصبح مواجهة ما يجري من هذيان له مخاطره لمن يحاولون إعادة تصنيع وتخليق ملف معهد دماج ثانية، وهذه المرة بالضالع، ولا بأس إن ارتفعت أصوات تعارض مثل كهذه خطوة لا بد من وأدها في المهد.
وختامًا، نشير والشيء بالشيء يذكر، فمادمنا ندعم أي جهد وتوجه وطني للإصلاح الاقتصادي الحقيقي والمعبر عنه حتى بالعودة الكريمة للعملة الوطنية كوحدة تعامل وبعد خطوات إسعافية أعادت لها الروح، يظل الأمر منوطًا بتوجه حقيقي للإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل، وعبر مؤسسات يعاد بناء هياكلها الإدارية، وتحديث وسائل عملها، وضمن منظومة تتيح نفاذ القانون ووسائل والرقابة والمحاسبة وأدوات ضبطها... لذا نقول ختامًا ما يجب قوله، والكلام موجه لرئيس الحكومة وماليتها وأجهزة مراقبتها والبنك المركزي، أن يأخذوا بعين الاعتبار أن المواطن لن يلدغ من ساعديه مرتين، إذ نرجو أن يكون الأمر الخاص الصادر بموافقة الأخ رئيس الوزراء بتحويل مبلغ يربو على 12 مليون دولار رواتب الحكومة وهيئاتها المقيمة خارج البلاد، إن كان الأمر صحيحًا، فكيف يتفق مع ما يصدر عن دولة رئيس الوزراء من صرخات تختفي تحت مداميك مصالح تتناقض واتجاهات الإصلاح العام... الأمر يحتاج لجلاء ما يحيط به من غموض، إذ يتوجب القول بصوت عالٍ:
لا يمكن للإصلاح أن ينجح وجيب خزينة الدولة وبنكها المركزي مثقوب يمر منه غول فساد كهذا سداح مداح، وصوت الشعب مايزال عاليًا يطلق الصيحات وأنات التوجع والأنين جراء ما يعاني، زادته كوارث السيول مخاضات ألم جديد... إذن لا بد من الإصلاح الحقيقي، وليبدأ الإصلاح من حيث يجب، أي سد كافة الثقوب التي تتسرب منها ملايين الدولارات، وكأن يا ذاك لا رحنا ولا جينا وكأنك يا أبا زيد ما غزيت.
وختامًا، شكرًا للدكتور حسن أبو طالب على مقالته.