صنعاء 19C امطار خفيفة

توريث الحكم ومأزق الجمهوريات الزائفة: قراءة نقدية ثانية لمقال القاضي عبدالعزيز البغدادي

في مقاله المنشور في جريدة الشورى الإلكترونية يوم الثلاثاء 19 أغسطس 2025م تحت عنوان: "مرض التوريث والحق في الثورة"، سلّط القاضي عبدالعزيز البغدادي الضوء على قضية التوريث السياسي بوصفه أحد أخطر الأمراض السياسية التي عصف وتعصف بالجمهوريات العربية، وبخاصة اليمن، ويحذر من تبعاتها على حاضر الأمة ومستقبلها.

في هذه المداخلة، نحاول مناقشة أبرز أفكار مقاله، مع تقديم قراءة نقدية تحليلية تستند إلى معطيات تاريخية ودينية وسياسية أوسع وذلك على النحو التالي:

أولًا: التوريث كأداة للاستعباد السياسي:

يقول القاضي عبدالعزيز بأن "كل صور توريث الحكم أو محاولة توريثه تعني طموح البعض في استعباد الشعب، وحيث يوجد الاستعباد يثبت الحق في الثورة لأن الناس ولدوا أحرارًا".
هذه العبارة تضع التوريث في سياقه الأخلاقي والسياسي، لا فقط بوصفه انحرافًا عن روح الجمهورية بل خيانة لمبدأ الحرية.
ومن هذا المنطلق، فإن مشكلة التوريث هي أول انحراف في الخلافة الإسلامية، إذ استطاع معاوية بن أبي سفيان أن يحول الخلافة إلى "ملك عضوض"، هذا التحول اعتبر نكسة عن الحكم الرشيد القائم على الشورى والمحاسبة، واستبداله بالاستئثار الوراثي، ما يعني أن رفض التوريث ليس مجرد رأي سياسي، بل هو موقف مبدئي ديني وأخلاقي وتاريخي. ناهيك عن عجز علماء الإسلام عن ابتكار نظرية سياسية تحدد كيفية اختيار الحاكم ومدة بقائه ومتى يتم عزله والاستناد إلى مرجعية لا يجوز تجاوزها مهما حاول الحاكم أن يعرف بهذا النظام فإنه سيواجه من قبل الشعب المتمسك بأحكام ومواد هذه المرجعية، فالدساتير يجب أن تحترم، ولا يجوز تعديل المواد المتعلقة بالحكم -المواد السياسية- فأغلب دول العالم الديمقراطي لا يستطيع الحاكم أن يتحايل على الدستور فيقوم بتعديل الدستور وفي كل مرة تجدد له فترة حكم حتى ضاق جهابذة الحاكم ذرعًا بتلك التعديلات فطالب أحدهم بخلع العداد.

ثانيًا: التوريث الجمهوري في اليمن:

لقد جاء في أفضل مرحلة بدأ فيها اليمنيون يتنفسون نسمات الحرية التي كانت تفوح في أنحاء الجمهورية، عقب تحقق وحدة الـ22 من مايو 1990م، حيث ولدت الوحدة وولد معها التعددية الحزبية والتنافس البرامجي بين الأحزاب، وفجأة تنطلق حرب ظالمة ضدًا على شركاء الوحدة بعد أربع سنوات من تحققها، وبدأ الرئيس السابق يلمع نجله الأكبر، مقلدًا لصدام مع نجله عدي، والقذافي مع سيف الإسلام، وحسني مع علاء، وحافظ سوريا مع ابنه بشار، وهكذا صارت الجمهوريات جمْلكية باسم الدولة الحديثة، وفي هذا الصدد نتفق مع قاضينا الجليل بأن: "الأحرار وحدهم وهم كثر يدركون أن التمسك بروح ثورة 26 سبتمبر مرتبط باستئصال مرض التوريث...".
وهذا الربط بين الثورة ورفض التوريث، لا يبدو محليًا فحسب، بل هو ظاهرة إقليمية مأساوية كما أسلفنا، وكما يظهر من مقارنة أجراها معهد كارنيجي عام 2009 حول "الجمهوريات الوراثية" في العراق، سوريا، مصر، ليبيا، واليمن، وكلها حوّلت دولها من جمهوريات إلى "جَمْلكيات". وتقول الدراسة بأن الدولة "تحوّلت إلى وسيلة لتحقيق مصالح عائلية لا مصالح عامة". فلم تعد هذه الجمهوريات إلا واجهات شكلية لا تختلف في بنيتها عن الملكيات الوراثية التقليدية، لكن مع قناع ديمقراطي أو حزبي زائف.

ثالثًا: الديمقراطية الزائفة والتوريث المقنّع:

يقول قاضينا الجليل بما معناه أن بعض ساستنا أووا إلى كهف أنظمة وراثية ملكية كي تعيد لنا الجمهورية، وهذا -حسب القاضي عبدالعزيز- "من عجائب من يستحلون الاستعانة بالشيطان الخارجي ضد خصومهم في الداخل"، هذا الاتهام للتبعية الخارجية في تثبيت مشاريع التوريث، يشير ضمنًا إلى مفارقة مهمة "الأنظمة التي تزعم التزامها بالديمقراطية تحظى بموافقة الغرب، فالغرب الذي يشترط على الإسلاميين القبول بصناديق الانتخابات ليُعتَبروا معتدلين، لا يمانع في دعم توريث الحكم طالما أن "العاض" لا يهدد مصالحه. ما يثبت نفاق المعايير الغربية في ما يخص "حقوق الإنسان والديمقراطية".

رابعًا: الإسلام والتوريث:

الخروج عن المنهاج النبوي، فالحكم السياسي في الإسلام وفق نصوص دينية شوروي، بدليل أن الناس هم من كانوا يختارون الرسول حاكمًا سياسيًا، عن طريق مبايعتهم له، وتمثل الخلافة منهاج النبوة، فهي قد سارت بطرق عشوائية، فأول خليفة كانت بيعته فلتة حسب عمر، وعمر وصلت الخلافة إليه عن طريق وصية السابق، وبعد أن تم اغتياله أوصى بأن تكون في واحد من ستة، وجعل المرجح عبدالرحمن بن عوف، أي أن الناخبين واحد والمرشحين ستة، في ديمقراطية معكوسة! والرابع بعد ثورة الأمصار ومطالبتهم بأن ينخلع عن الحكم، فرض قائلًا: "والله لن أخلع قميصًا ألبسنيه الله"، وهذا ادعاء ما أنزل الله به من سلطان، وكان البذرة لدعاوى الحق الإلهي. بل وهو الذي جرأ أحد الطلقاء أن يحول تلك الخلافة الهشة إلى ملك عضوض حسب توصيف علماء الإسلام.
وهو توصيف يحمل في طياته الذم والتحقير. وهو أمر لا يختلف عن الجملكيات التي لا يغيّرها غلاف "جمهوري"، ولا تزوير صناديق، ولا إجماع مفبرك.
وبالتالي فإن التوريث في الدول الجمهورية يمثل خيانة مزدوجة: خيانة لمفهوم الجمهورية، وخروجًا عن قيم الشورى الإسلامية.
خامسًا: ركز مقال القاضي عبدالعزيز البغدادي على تلك المبالغات الثقافية في تفسير التوريث العربي:
فمن الضروري أيضًا تحذير بعض الأقلام من الانزلاق في المبالغة الثقافوية، كما في قول بعضهم: "فلسفة التوريث متأصلة في العقلية العربية"، وكأن الاستبداد قدر محتوم، فالمشكلة ليست في "العقل العربي" كما تُصور، بل في منظومات الحكم المستبدة التي تُفرغ حتى الجمهورية من معناها، وتحتال لتوريثها، كما فعلت الأنظمة في سوريا ومصر واليمن.

سادسًا: الثورة المضادة والتجهيل كأدوات التوريث:

يقول قاضينا الجليل بأنهم "يريدون تحويل الشعب إلى قطيع يمكن عزله عن العالم والتسوير عليه بسور الجهل والخرافة ومناهج التجهيل!". وحقيقة أن الاستبداد الموروث يتكئ على التجهيل والتدين المزيف كأدوات للإبقاء على حالة الاستسلام الشعبي. وليس من الغريب أن يكون أول ضحاياه العلم والحرية.
ولذلك، فإن مقاومة هذا المرض لا تكون بالشعارات فقط، بل بترسيخ مبدأ تداول السلطة، والانتقال السلمي للحكم، ودولة القانون، والعدالة، والمواطنة المتساوية، لا بانتظار بطل فرد أو عائلة مقدسة.

الكلمات الدلالية