أحمد محمد نعمان.. بين المقابلة والمذكرات والسيرة.. قراءة فكرية سياسية(4 ـ 4)

أحمد محمد نعمان
-أ-
"حركة الأحرار" وصعود الحركة السياسية والوطنية التحررية اليمنية.
مع نهاية النصف الأول من الخمسينيات وبداية النصف الثاني منها، وتحديدًا من بعد صعود مدّ حركة التحرر الوطني العالمي، ودورها في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وانقسام العالم إلى معسكرين: رأسمالي واشتراكي، وتحديدًا -تاريخيًا- من بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م، والتطورات الداخلية في قلب هذه الثورة، وما اتخذته من إجراءات سياسية واقتصادية/ اجتماعية، وتأميمها لقناة السويس، وبناء السد العالي بعد ذلك، ودعمها حركات التحرر في المنطقة العربية وفي العالم، ودخول مصر عبدالناصر مع جواهر لال نهرو، وتيتو، في تشكيل مؤتمر عدم الانحياز "باندونغ"، والعدوان الثلاثي: الصهيوني، الفرنسي، البريطاني على مصر، والمقاومة الوطنية والقومية المصرية للعدوان، ودعم الشعوب العربية لمصر؛ كل ذلك فتح المنطقة العربية كلها على مرحلة سياسية وقومية تحررية جديدة، من سوريا إلى ثورة العراق 1958م، التي أسقطت "حلف بغداد"، إلى لبنان، إلى ثورة الجزائر وثورة اليمن، ووقوف مصر داعمة للثورة في الجزائر، ومشاركة فعلية مع عبدالناصر في قلب ثورة 26 سبتمبر 1962م.
فمنذ العام 1956م، بدأت تظهر وتتشكل الخلايا الأولى لـ"حزب البعث العربي الاشتراكي" في جنوب اليمن، من حضرموت إلى عدن، وفي الشمال بدأ تشكّل البعث من العام 1958م، وظهرت التجمعات الماركسية المبكرة في عدن، و"الجبهة الوطنية المتحدة" عام 1955م، وفي العام 1959م ظهرت "حركة القوميين العرب" في الجنوب والشمال. حتى تشكيل "تنظيم الضباط الأحرار" في صنعاء، ديسمبر 1961م، ثم بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، تشكلت "الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل"، بعد أن بدأ يتراجع دور "الجمعية العدنية"، وبعدها تراجع دور ومكانة "حزب رابطة أبناء الجنوب العربي"، وبدأ الوهن يدب في جسد حركة الأحرار، والانشقاقات تنخر في قلب ما تبقى منه في صورة "الاتحاد اليمني"، في القاهرة تحديدًا، وفي "الاتحاد اليمني" في عدن بدرجة أقل.
وقد أشار الشاعر الشهيد محمد محمود الزبيري إلى ذلك بالتفصيل في كتيّبه: "نعمان الصانع الأول لحركة الأحرار"(1).
بدأت معه "حركة الأحرار" تفقد بريقها الذي كان في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات والنصف الأول من الخمسينيات. وكان تأسيس "الاتحاد اليمني" في عدن، عام 1952م، برئاسة الأستاذ عبدالقادر علوان، ثم بعد ذلك، بقيادة عبدالله علي الحكيمي، القادم من بريطانيا للاستقرار في عدن، بداية مرحلة جديدة في تاريخ المسار السياسي للأحرار اليمنيين، بعد أن سقط انقلاب 1948م، وإعدام قادة الانقلاب، ودخول من تبقى منهم إلى السجن.
استمر بعدها نشاط "الاتحاد اليمني"، لفترة قصيرة بحكم اعتقال وسجن الحكيمي حتى اغتياله مسمومًا. ثم كان تأسيس "الاتحاد اليمني" في القاهرة عام 1953م، بداية مع الزبيري، ثم بعد وصول الاستاذ، أحمد النعمان إلى القاهرة في أغسطس 1955م، ودوره الكبير في إنعاش نشاط ما تبقى من حركة الأحرار، في صورة "الاتحاد اليمني"، وتفعيل دوره الذي كان شبه مجمّد، وتتنازعه اتجاهات إمامية بعد سيطرة "المفوضية المتوكلية" عليه في القاهرة، وبعض الأسماء مثل الجناتي، والمقبلي، والخزان، ودخولهم في صراعات مع النعمان، الذي ترك له الزبيري القيادة بعد إعلانه استقالته، ومحاولة الأستاذ النعمان إعادة ترتيب بنية "الاتحاد اليمني" بعيدًا عن الأسماء التي ارتبطت بالإمامة.
ودخل "الاتحاد اليمني" تحت قيادة أحمد النعمان في حالة من الصراع المزدوج: مع بعض الأحرار الانتهازيين، ومع الطلاب المنتمين للأحزاب الجديدة: "بعث"، "حركة القوميين العرب"، ماركسيين وناصريين، بعد أن رأى رموز حركة الأحرار أن الأحزاب السياسية والوطنية اليمنية الجديدة (الصاعدة) ليست مؤهلة لتبني القضية اليمنية، وأنها أسيرة أحزابها القومية (في الخارج). وفي هذا القول/ الرأي شيء من الصحة النسبية، وليس كل الصحة.
وحديث الأستاذ أحمد النعمان النقدي لهذه الأحزاب، في المقابلة المسجلة بالصوت، جاء من موقع وموقف مختلف نوعيًا عنها، فضلًا عن الصراعات داخل بنية تنظيم "الاتحاد اليمني" في عدن وفي القاهرة، خاصة بعد فشل انقلاب 1955م، على خصوصية دور ومكانة كل من الاتحادين، في عدن والقاهرة، والذي يحتاج إلى دراسة مستقلة لكل منهما.
ثم الاختلاف مع آل الوزير الذين انشقوا في نفس الفترة مشكّلين حزبهم الخاص: حزب الشورى، أو "اتحاد القوى الشعبية"، ما يعني أن حركة الأحرار وصلت إلى بداية نهاية انفلاشها الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي.
والأهم، أن ما تبقى من حركة الأحرار في صورة "الاتحاد اليمني" لم يكن واضحًا لديهم -كحركة أو اتحاد يمني- ماذا يريدون بالضبط، خاصة "الاتحاد اليمني" في القاهرة، وتحديدًا من بعد فشل تجربتهم في انقلاب 1948م، ثم فشل انقلاب 1955م، حيث اختلفت رؤى ومواقف الأحرار منه: معه، ضده، وبين بين.. وجدت خلالها حركة الأحرار نفسها في حالة من الاسترخاء والفراغ السياسي امتدت من 1948م إلى 1955م، فترة خروج العديد منهم من السجون.
وجدت حركة الأحرار نفسها تحت تسمية "الاتحاد اليمني"، في القاهرة تحديدًا وفي عدن، تعيش في خضم تحولات وتطورات فعل سياسي واجتماعي ووطني يمني وعربي جديد وصاعد، وبدون قاعدة اجتماعية حقيقية حاضنة لها، سوى ما تبقى من المهاجرين في مناطق هجراتهم المختلفة، وبخاصة منذ بداية النصف الثاني من الخمسينيات.. وجدت قيادة الحركة/ الاتحاد نفسها تعيش شبه معزولة وعرضة لانشقاقات وانقسامات داخلية، وضعيفة الصلة بالتحولات التي تشهدها الساحة اليمنية والعربية، ودورها السياسي/ التاريخي يتراجع نسبيًا -تدريجيًا- لصالح قوى اجتماعية وفكرية وسياسية جديدة، مع تصاعد مد قوى حركة التحرر الوطنية اليمنية والعربية.
صار معه الحديث عن إصلاح الإمامة من داخلها كلامًا من الماضي، بخاصة بعد انقلاب عام 1955م، تحولت معه فكرة/ لعبة "ولاية العهد"، التي ارتفع رصيدها في سلوك وخطاب الأحرار التكتيكي، وهم داخل السجن، وبعد خروجهم من السجن، إلى لعبة، أو مزحة سمجة وثقيلة على الروح والعقل، وهي الفكرة/ اللعبة التي استمر الأحرار يلعبون عليها لشق بنية النظام الإمامي، في تعميق تعارضاته الداخلية، غير آبهين بالتحولات الأيديولوجية والسياسية والوطنية العاصفة من حولهم؛ وهنا تكمن أزمة، أو مشكلة حركة الأحرار.
بقي "الاتحاد اليمني" يشتغل سياسيًا، في القاهرة بحركة بطيئة، ولم يخلُ النشاطـ -كما سبقت الإشارة- من خلافات وانشقاقات سياسية وتنظيمية في داخله، أشار إليها بوضوح الأستاذ أحمد النعمان في مقابلته/ مذكراته في أكثر من موضع، كما أشار إليها الزبيري في كتيّبه "نعمان الصانع الأول لقضية الأحرار".
حقًا، لقد وصلت حركة الأحرار في صورتها القديمة ("حزب الأحرار" 1944م، "الجمعية اليمانية الكبرى" 1946م و"الاتحاد اليمني" في عدن وفي القاهرة) إلى منتهى وخاتمة دورهم كحزب، وكرؤية للإصلاح.
كانت -عربيًا- ثورة 23 يوليو 1952م، بداية الانطلاقة والعنوان السياسي والقومي البارز الذي كانت الحركة الطلابية في القاهرة، والحركة الوطنية اليمنية الصاعدة في الجنوب والشمال، جزءًا منه، وليس نشأة "تنظيم الضباط الأحرار" في ديسمبر 1961م، سوى آخر عناوينه، الآمرة بقلب صفحة حركة الأحرار اليمنيين.
فنحن حين نشير إلى "حزب البعث العربي الاشتراكي" أو إلى "حركة القوميين العرب" وإلى الناصريين، أو تجمعات وتنظيمات اليسار الماركسي، إنما نشير إلى قوى اجتماعية وفكرية وسياسية جديدة ضد الاستبداد، وفي معاداة ومقاومة الاستعمار، قوى تعي وتدرك أهمية بناء وقيام الدولة الوطنية الحديثة، وبالنتيجة أهمية قضية فلسطين ومقاومة الصهيونية، كجزء أصيل في بنية مشروع وخطاب هذه الأحزاب والتنظيمات، وهو ما كان، قياسًا لمضمون خطاب حركة الأحرار التي وصلت إلى نهاية المشوار، في صورة الخطاب الصادر عن حركة الأحرار، الذي يكاد يخلو من هذه المفاهيم والأفكار والمعاني والمضامين كرؤية ومنظومة سياسية كفاحية وطنية وقومية. توقف معه خطاب حركة الأحرار سياسيًا عند سقف "ولاية العهد"، وقوميًا عند حد جمع التبرعات لفلسطين دون رؤى لمقاومة الاستعمار والصهيونية تتبع عملية جمع التبرعات لصالح فلسطين. وهو قطعًا -جمع التبرعات- أمر طيب ونبيل يحسب للأستاذ النعمان تحديدًا، ولحركة الأحرار.
يمكنني القول: إن ثورة 23 يوليو 1952م، هي التي أعلنت بداية انطلاقة وصعود مد حركة التحرر الوطنية اليمنية والقومية العربية في كل المنطقة، وهي التي مدت يد المساعدة والعون والقوة لتيار المقاومة ضد استبداد الأنظمة الرجعية في المنطقة، وضد الاحتلال الاستعماري في أكثر من بلد عربي: الجزائر، اليمن الشمالي وجنوب اليمن ضد وفي مواجهة الاستعمار البريطاني، بعد ذلك.
وكان لصعود دور حركة الطلاب اليمنيين في القاهرة، ودخولهم معترك العمل السياسي والوطني، وعقدهم مؤتمرهم الطلابي اليمني الأول (شمال وجنوب) في 23 يوليو 1956م، وإعلانهم بيانهم السياسي الوطني اليمني الوحدوي الواضح حول اليمن "الطبيعية"، في تجاوز فكري وسياسي لرؤية وخطاب حركة الأحرار الفضفاض والعمومي، الموارب حول الوحدة اليمنية، وحول مقاومة الاستعمار البريطاني، وحول مستقبل اليمن، شمالًا وجنوبًا، على هذا الأساس، وحديثهم الصريح -الطلاب- عن الوحدة اليمنية التي تشمل اليمن الطبيعية؛ كان ذلك -في تقديري- هو بداية إعلان تراجع دور "حركة الأحرار" و"الاتحاد اليمني" في القاهرة وعدن، بدرجات متفاوتة فيما بين دور الاتحادين.
ففي مقابلة مع الشاعر، والسفير، عبده عثمان محمد، عضو اللجنة التنفيذية للمؤتمر الدائم للطلبة اليمنيين في مصر، في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، تحدث عن حالة ووضع حركة الأحرار قائلًا: "هذا التنظيم -يقصد الاتحاد اليمني للأحرار في القاهرة- لعب دورًا هامًا في الحركة الوطنية، إلا أنه في الآونة الأخيرة قد توقف نشاطه نسبيًا، وأصبح لم يعد قادرًا على استيعاب الجديد ومتطلباته، وهذا لا يقلل من دور رجاله"(2).أي أن ثمة ضعفًا وتراجعًا في دور تنظيم حركة الأحرار، مع بقاء دور ومكانة رجاله كأسماء سياسية ووطنية تاريخية.
وجاء -لاحقًا- تشكيل "تنظيم الضباط الأحرار" السري في ديسمبر 1961م، بداية سياسية وتنظيمية لإعلان ذلك الأفول السياسي والتاريخي النهائي لحركة الأحرار، وهو ما رفض البعض القبول به والتكيف مع طبيعة ومنطق المرحلة الجديدة، على كل مصاعبها وتحدياتها وعثراتها التي رافقت تجربة حركة الأحرار في المرحلة الأخيرة، حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م.
إن ثورة 26 سبتمبر 1962م كانت تفاعلاتها واعتمالاتها الأيديولوجية والسياسية تتبلور وتتشكل وتختمر في أذهان وعقول شباب ثورة التحرر السياسي والاجتماعي والوطني اليمنية، ضمن أفق الرؤية الوطنية والتحررية القومية.
وهنا أجد نفسي مضطرًا للتدليل على ذلك، لإيراد نص أيديولوجي/ سياسي متقدم وعميق يطرح ويعكس صورة الخطاب البديل لخطاب حركة الأحرار، شكلًا ومضمونًا، فكرًا ولغة، وهو ما كتبه قائد تنظيم الضباط الأحرار ـ لاحقًا ـ علي عبدالمغني، في صحيفة النصر الصادرة في العهد الإمامي في مدينة تعز، في 16 يناير 1958م، عدد رقم (168)، التي كان يرأس تحريرها السيد محمد بن حسين موسى، جاء في المقالة التالي:
"... باسم الحرية التي ثمنها الدماء، وباسم المدرسة الثانوية كلها، هيئة وطلابًا، أَتقدم وأتشرف بهذه الوقفة المشرفة كي أساهم الشعب المصري المتحرر احتفالاتهم الباهرة... في هذا اليوم تمر أمامنا أحداث الجريمة المنكرة التي ارتكبها الاستعمار الغاشم بعدوانه الوحشي على أراضي مصر العزيزة، قلب الأمة العربية المتحررة، وزعيمة الشرق الإسلامي كله، في هذا اليوم تمر أمامنا ذكرى العدوان الثلاثي بوحشيتها وقساوتها لنرى ما يضمره لنا الاستعمار الغربي الآثم من الحقد... إننا نحتفل احتفاء بذكرى انتصار القومية العربية، انتصار الروح على المادة، انتصار الإيمان بالحق والمبدأ على القوى الاستعمارية، إننا نحتفل بهذا العيد القومي الشامل، فإنما نحتفل بيوم الحرية والسيادة والاستقلال، لقد كانت المؤامرات السرية المشتركة تعني القضاء على مصر، على حكومة مصر الفتية، وعلى القومية العربية المشتعلة... كانت المؤامرة السرية الغادرة تنوي احتلال قناة السويس من جديد، كانت تعني أن تعيد العملاق العربي إلى قم الفناء "فرّق تسد"... لقد كان يريد "أيدن" و"مولييه" الأثمان إسقاط جمال عبدالناصر، وأرادوا أن ينفذوا الخطة بالضغط على شعب مصر الواعي حتى يثور على زعيمه المخلص، ويشكل جهازًا حكوميًا جديدًا يشرف عليه الاستعمار ويسيره لأغراضه الخسيسة وشهواته النازية، ولكنهم خدموا جمال عبدالناصر من حيث لا يشعرون، مسكين الأسد البريطاني لقد شاخ وتقدمت به السن، ودخل في طور التخريف (...)، لقد أهرمته هزيمة بورسعيد، وأن هزيمة عدن المقبلة ستكون أدهى وأمر (لاحظوا قوله هزيمة عدن المقبلة -الباحث) لقد فتحت مصر الباسلة أبواب الجهاد لكل الشعوب المستعمرة وخطت الخطوة الأولى في طريق التحرر"(3).
إن القائد الشهيد علي عبدالمغني، في النص السالف، يتنبأ بثورة التحرير من عدن قبل قيامها بست سنوات، وفي خطابه نجده يقدم رؤية فكرية وسياسية ووطنية وقومية تحررية ضمن أفق سياسي تاريخي شامل. يلتقي مع خطاب الطلاب اليمنيين في القاهرة، ومع خطاب الحركة الوطنية اليمنية الصاعدة، وكأننا معه نقرأ واقع أزمتنا الوطنية والقومية الراهنة، خطاب اعتبر فيه جمال عبدالناصر قلب الأمة العربية، وقلب تحرير الشرق الإسلامي، مؤكدًا على قيمة فعل المقاومة لدحر العدوان الاستعماري.
إن النص السالف الطويل يكشف لنا الفارق النوعي؛ فكريًا وسياسيًا وثقافيًا، بل وحتى سيكلوجيًا، بين خطاب رمز الضباط الأحرار، وبين خطاب حركة الأحرار في ذات التاريخ في الموقف من الثورة على النظام الإمامي الحميدي المتوكلي، وفي الموقف من الاستعمار.
هذا فقط، لتقريب الصورة بين صعود خطاب، وأفول آخر.
يذكر الأستاذ أحمد محمد نعمان في مذكراته المسجلة، قائلًا:
"كان من رأيي أن الثورة في اليمن أو أية حركة عنيفة ينبغي ألا تقوم، وأنه يجب التعاون مع البدر لأنه متجاوب مع الأحرار ومع دعوتهم. فلا بد أن نجعله مرحلة من المراحل. وإذا تطور الوضع في اليمن وإذا اختار اليمن نظامًا غير هذا النظام فليعمل، لكن نحن أحوج ما نكون للبدر، ولا بد أن يكون وجوده ضرورة وطنية. وكان هذا رأي كثيرين من الإخوان الأحرار في الداخل المرتبطين بنا. وكان رأي فريق من المصريين أننا يجب أن نتعامل مع البدر، وأنه لا يوجد عنده تعصب أو تحجر: جعلتنا هذه العلاقات نُقدّر فيه دائمًا هذا المعنى ونرتبط به من أجل مصلحة البلاد. وعندما رأيت أن الاتجاه ضده في مصر فهمت ذلك، وحاولت أن أخرج من مصر وأسافر إلى اليمن بعد موت الإمام أحمد لأكون إلى جانبه أُنبهه. وأبرقت له برقية أعزيه بأبيه وأهنئه بتولي الإمامة (...) ولكن كما يقولون "سبق السيف العذل"، هاجموه وأخرجوه ولامونا لأننا بعثنا له برقية، وأننا غير مرتاحين للثورة وقالوا إننا لسنا ثوارًا"(4).
إن النص السالف، الذي أوردناه على طوله من مذكرات الاستاذ، أحمد النعمان، يقول بجلاء ووضوح إن حركة الأحرار اليمنيين، حتى بطبعتها الأخيرة "الاتحاد اليمني" -في القاهرة تحديدًا- قد وصلت إلى منتهاها وخاتمتها الفكرية والسياسية والتنظيمية. ومن هنا اختلاف حركة الأحرار وتناقضها مع رؤى وطروحات الأحزاب السياسية المعاصرة: البعث، وحركة القوميين العرب، والماركسيين، والناصريين. وهو ما يشير إليه تحديدًا وكثيرًا الأستاذ النعمان في مذكراته المسجلة.
إن الأستاذ أحمد محمد نعمان، وهو الصادق العظيم مع نفسه ومع رؤيته، يكاد يكون الوحيد من حركة الأحرار الذي قدم كل ذلك البوح الصادق عن رؤيته وعن موقفه من الثورة، خاصة وهو يسجل مقابلته أو مذكراته بعد قيام الثورة وانتصارها بسبع سنوات (1969م). ولذلك لم يتنازل عن رؤيته وموقفه حتى بعد قيام الثورة وانتصارها في الشمال والجنوب.. بقي واستمر يتحدث عن ثورة 26 سبتمبر 1962م باعتبارها حدثًا مستعجلًا ومتطرفًا، كمن يستعجل الشيء قبل أوانه، ومن أنها ليست ثورة تغيير، بصرف النظر عن مآلها السياسي، وأنه ضد أي حركة عنفية ضد الإمامة، وأنه مع الإصلاح والتغيير التدريجي التاريخي.
لقد ظل الأحرار طيلة سنوات النصف الثاني من الخمسينيات، يراهنون على فكرة وقضية "ولاية العهد"، حتى عندما بدأ البعض من الأحرار الكبار، والمشايخ يتحدثون أحيانًا ولمامًا، عن الجمهورية، فإنها جمهورية بمضمون سياسي اجتماعي شبه إمامي: القبيلة، ومشايخها هم العمود الفقري لتلك الجمهورية، لأنهم كما يتصورون -أقصد المشايخ- هم البديل السياسي التاريخي للإمامة، وهو ما تحدث عنه البعض في عام "ثورة خولان"، 1959م، أنهم مع جمهورية شريطة أن يكون على رأس الدولة الجمهورية، أحد المشايخ الكبار، وينوبه واحدًا من رموز الأحرار، وهو ما أشار إليه، الاستاذ، علي محمد عبده، في أحد أبحاثه(5).
إن ما كان يتصوره ويعتقده الأستاذ النعمان، كما ورد في المقابلة/ المذكرات، هو استمرار الإمام البدر في الحكم، وتطور النظام السياسي الإمامي من داخل بنيته الداخلية، دون تدخل عنيف من الخارج، أي دون ثورة، وبالتالي دعم الإمام البدر ونصحه إلى الطريق الصحيح، "لأننا -كما يرى الأستاذ النعمان- أحوج ما نكون للبدر، وأن استمرار وجوده ضرورة وطنية (...) ولأنه لا يوجد عنده أي تعصب أو تحجر"(6).
بعد مطالعتنا لهذا النص الأيديولوجي/ السياسي للأستاذ أحمد محمد النعمان، في مذكراته المسجلة، لا يسعنا القول -على اختلافنا معه فكريًا وسياسيًا- سوى أنه أبرز الصادقين في التعبير عن رأيه، لم يُخاتل أو يُنافق، ولم يَخشَ قول رأيه، مع أنه سيصدم قطاعًا واسعًا من أبناء المجتمع اليمني في قوله إنه لم يكن مرتاحًا للثورة وقيامها.
على أنه يمكنني القول إنه من أبرز وأسمى الوطنيين ومن الثوار الكبار، بل هو من الرموز الصانعة للوطنية اليمنية المعاصرة.
أي أن الأستاذ النعمان ليس من الطارئين على حركة التاريخ السياسي والوطني اليمني، مثل -على سبيل المثال- د. عبدالرحمن البيضاني، الذي فرضه السادات، والمخابرات المصرية قائدًا على رأس الثورة اليمنية، قبل قيامها، وفتح له نافذة "صوت العرب"، كما فتحت له صفحات الصحف المصرية، لنشر كتاباته، ضدًا على رأي ومواقف القيادات السياسية والوطنية التاريخية، في صورة النعمان، والزبيري، والذي استمر أكثر بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، بخاصة خلال الأشهر الثلاثة الأولى للثورة، حتى حصوله على أرفع المناصب العليا في الدولة والحكومة.
الشيء الذي أقدره وأراه شبه أكيد، ويعبر عن رأي القطاع الأوسع من اليمنيين، وبخاصة من بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، هو أن اليمن واليمنيين تجاوزوا من سنوات طويلة مرحلة الإمامة الحميدية المتوكلية بجميع مسمياتها: يحيى، أحمد، البدر، و"ولاية العهد"، وكل منظومة الحكم الإمامي، سواء في أسرة بيت حميد الدين، أو غيرها من الأسر ضمن البيت السياسي الهاشمي الكبير.
إن الإمامة استمرت حاضرة وموجودة بالقوة وليس بالفعل، حسب تعبير أرسطو، أي بقوة الاستمرارية في التاريخ التخلفي، وليس بفعل الحاجة الموضوعية والذاتية والتاريخية لها في الواقع والحياة.
وبقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، التي فجرت الثورة في كل اليمن، شمالًا وجنوبًا، وكان يمكن أن يصل مداها وأثرها الإيجابي إلى كل الجزيرة والخليج، لولا الحرب الرجعية والاستعمارية العدوانية على ثورة 26 سبتمبر، خوفًا من ذلك التمدد الانفجاري للثورة إلى كل المنطقة، وتحديدًا إلى السعودية، راعية وحامية المصالح الاستعمارية في منطقتنا، التي بادرت من أول أسبوع وشهر بالعدوان على الثورة، وهو ما يدل على أن اليمنيين لم "يكونوا أحوج ما يكونوا للبدر"، وأن "وجود البدر" لم يكن أبدًا "ضرورة وطنية"(7)، في التاريخ السياسي اليمني المعاصر.
يبقى ذلك هو رأي الأستاذ النعمان الخاص، وقد يكون رأي بعض من بقي من الأحرار، مع أنني لم أطلع كتابة -على الأقل حتى اليوم- على من يقول بهذا الرأي من الأحرار. فقط -حسب علمي- هو الأستاذ النعمان من جاهر به ودافع عنه، وكان صادقًا مع نفسه، وواضحًا مع فكره وتفكيره، في قول رأيه وما يعتقده، ولم يتراجع عنه، حتى بعد سبع سنوات من قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، وانتصارها. وهو ما أشار إليه د. علي محمد زيد، المحرر والمراجع للكتاب/ المذكرات، حيث كتب عن أن النعمان "عبر بوضوح عن موقفه الحقيقي، مثلًا من قيام ثورة سبتمبر 1962م، حتى بعد أن انهزم خصومها، ولم يقم بأثر رجعي بإجراء جراحة تجميل لذلك الموقف"(8).
ولنترك التقييم الفكري والسياسي حول هذه المسألة/ القضية -وغيرها- للكتابة العلمية التاريخية، أي للبحث العلمي، الذي قطعًا، في صيرورة الزمن النقدي التاريخي، سيكون له رأي قد يكون مناقضًا ومختلفًا عن كل ما نكتبه نحن اليوم على طريق البحث عن الحقيقة. ذلك أن ما نقوله جميعًا بلغة اليقين الأيديولوجي، في كل ما نكتب، هو وجهة نظر على طريق البحث عن الحقيقة، متعددة الأبعاد والاتجاهات، التي بها يكتمل المعنى.
جميعنا نتكلم بلغة وخطاب "المفرد بصيغة الجمع"، والمطلق، ونحن نقصد النسبي والتاريخي.
أي أن ما يهمنا ويعنينا هو تثبيت رأينا، وتحقيق مصلحة جماعتنا/ حزبنا/ قبيلتنا/ طبقتنا.