صور الوداع والالتفات عند المحبين العرب
أغنية الفناة القديرة فيروز -شَفاهَا الله- «سألتك حبيبي» مِنْ أشجى وأجمل الأغاني التي أدتها.
وفيها تقول:
إذا كِنَّا عَ طُولْ، نِتلاقَى عَلى طُولْ
ليشْ نِتلَّفتْ خَايفِينْ؟!
وتقول:
أنَا كِل مَا بشُوفَكْ كَأنِّي بِشُوفَكْ
لأولّ مَرَّهْ حَبيبيْ
أنَا كِل ما تَودَّعْنَا كأنَّا تُودَّعْنَا
لآخِرْ مَرهْ حَبِيبِي!
إلِّي إحكي لِيْ نَحْنَا مِينْ؟
وَلِيشْ بنتلفتْ خَايفِينْ؟!
ومِنْ مِينْ خَايفِينْ
مِنْ مينْ؟!
في الحقيقة لم يتضح لي بشكل جيد ماذا تعني بقولها:
إذا كنا عَ طُولْ... إلخ.
وهنا اقتراحان للقراءة:
الأول: إمَّا أن تقصد إذا كانت علاقتنا صحيحة، وَليسَ بها أيّ ريبة؛ فَلِمَ نحن خائفان نلتفت يًمنةً ويسرة؛ كأنَّا نأتي أمرًا مُنكَرًا؟!
الثاني: لِمَ يُلازمنا هذا الخوف مَع كَثرة لقاءنا واستمرارنا في التواصل فيما بيننا. والأصل أن نعتاد على ذلك، ويذهب عنا هاجس الخوف؟!
وَلا شكَّ أنَّ هذا النوع من الشعور بالخوف والخطر فتحَ أمامها سؤال الهوية مَنْ هي؟ ومن تكون؟ وَمن يكون حبيبها؟
هل هما شخصان آثمان؟
أم هما شخصان سويِّان يعرفان أنَّ لهما الحق في كل العواطف النبيلة والمشاعر الجميلة التي يحملانها تجاه بعضهما، دون أن يساورهما أي شعور بالذنب أو مقارفة الخطيئة.
وذكرت بهذا قصة حدثت معي وأنا طفل؛ حيث كُنَّا في الحديدة: الوالدة وجدتي وأخواتي وأنا، والوالد حينذاك بعيد عنا مُتَخفٍّ لدواعي سياسية؛ وذلك أيام الأحزاب السرية في اليمن فترة الثمانيات، وخميس، وسجون ومعتقلات الأمن الوطني الرهيبة.
كَانَ الوالد يزورنا في بعض الأحايين على خفية. وأذكر أنه ذات مرة زارنا، وهو حليق الرأس. وفي تلك الفترة كان عمي الأصغر ووالدنا بعد الوالد محمد طاهر -حفظه الله- قد قَرُبَ موعد عرسه؛ فسألت والدي:
- هل ستحضر العرس؟
- لا لن أتمكن. اذهبوا أنتم. سَأكون مشغولاً.
- هل أنت مجرم يا أبه؟!
فانفجر الوالد ضَاحكًا مِلءَ فمه مِنْ هذا السؤال البريء غَير المتوقع!
طَبعًا لم يأتِ هذا السؤال مِنْ فراغ. فالوالد كانَ هاربًا. لا يزورنا إلا خلسة وبتوجس وقلق عن أعين البوليس. وهو إلى جانب ذلك حليق الرأس (أصلع الشعر)، ولا يحضر عرس أخيه.
إذن يبدو إنه عامل عمله. لأنه لا يهرب من البوليس إلا المجرمون.
لم أكن أعرف حينها أنَّ الأدوار في بلدنا وفي كل بلداننا العربية مقلوبة -ولا زالت-؛ فالبوليس فيها هو المجرم واللص، والمواطن هو المتهم المظلوم البريء.
أظنّ أنَّ سؤالي هذا في طفوليته لا يختلف عن سؤال فيروز البريء أيضًا.
أمَّا مشهد التلفت والوداع في أغنية فيروز، فنجده أيضًا بصورة رقيقة شاعرة عند البرعي في أبياته التي امتدح بها مشايخ تهامة الصوفيين المكدشيين؛ وهي مِنْ أجمل قَصَائد البرعي:
بِأبي مُودِّعَةً تَخَافتْ صَوْتُهَا
خَوفَ الرَّقِيبِ وَعَينُها تَتَمالَى ْ
جَاذبتُهَا طَرفَ الحَديثِ وَرُبَّمَا
التفتْ يَمِينًا وَالتفتْ شِمَالا
قَالتْ تُودِّعُنا؟ فَقلتُ لَهَا: نَعَمْ!
قَالتْ: فَتنسَانَا؟ فَقُلْتُ لَهَا: لاَ!
فَهَل تَغيَّرَ شيءٌ مِنْ هذا العَرض، وهل تغيرت ملامح الصورة على مسرحنا العربي الخالد، سواءٌ في لبنان القرن العشرين الميلادي والواقعة على ضِفافَ المتوسط، أو في قرية صغيرة من قرى تهامة اليمن في منتصف القرن التاسع الهجري؟!
للأسف لا يزال الخوف والقلق مِنْ فُقدَان الحب هو السائد في عالمنا العربي. فالشعور بالأمان لَمْ يَكُنْ سِوى مُجَرَّد أمنية تمناها مجنون ليلى في قوله:
أمَا والذي أبكَى وأضْحَكَ والَّذِي
أمَاتَ وَأحيَا والذي أمْرهُ أمْرُ
لَقَدْ تَرَكتنِي أحْسُدُ الوَحشَ أنْ أرَى
أليفَينِ مِنهَا لا يَروعُهُمَا الذُّعرُ
لكن ما أعجبني حقًّا من قصائد الوداع قصيدة ابن المعتز، فهو َلمْ يُبالِ أو يكترث بِمَا كرث فيروز أو الشيخ البرعي؛ وذلك في قصيدته التي يقول فيها:
شَجَاكَ الْحَيُّ إذْ بَانُوا
فَدَمْعُ الْعَيْنِ تَهْتَانُ
وَفِيهِمُ رَشَاٌ أَغْيَـ
ـدُ سَاجِي الطَّرْفِ وَسْنَانُ
وَلَمْ أَنْسَ وَقَدْ زُمَّتْ
لِوَشْكِ الْبَيْنِ أَظْعَانُ
وَقَدْ أَنْهَلَنِي فَاهُ
وَوَلَّى وَهْوَ عَجْلانُ
فَقُلْ فِي مَكْرَعٍ عَذْبٍ
وَقَدْ وَافَاهُ عَطْشَانُ
وَضَمٍّ لَمْ يَكُنْ تَحْسَــبُهُ في الرِّيحِ أَغْصَانُ
كَمَا ضَمَّ غَرِيقٌ سَا
بِحًا وَالمَاءُ طُوفَانُ
وَمَا خِفْنا مِنَ النَّاسِ
وَهَلْ فِي النَّاسِ إنْسَانُ؟!
فهو يَقُول: إنَّهُ ضَمَّ مَحبوبه وارتشف مِنْ رحيقه، ولم يشعر بأدنى خوف من الناس؛ لأنه -باختصار- ليس فيهم إنسان على وجه الحقيقة.
ولسحيم عبد بني الحسحاس قصيدة رائعة مشهورة كان المُفَضَّل الضَبِّي يُطريها ويقول عنها بأنها: الديباج الخسرواني.
ويصفها الدكتور إحسان عباس بأنَّها من النسيب الذي ليس لأحدٍ مثله.
أمَّا ابن الخطاب فقد بالغ -على عادته- في النكير؛ حيث يذكر أهل الأدب أنه عَلَّقَ على مطلع قصيدته:
عميرةَ وَدِّعْ إن تَجهَّزتَ غَاديَا
كَفَى الشَّيبُ والإسلامُ للمرء نَاهِيَا
قائلاً: لَو قَدَّمَ الإسلامَ على الشيب لَفَرضْتُ له!
وأنَّى لسحيم تقديم الإسلام على الشيب؛ وَقَد بَنى قَصيدتهُ على هذا الوزن؟!
وإذا كان الله -سبحانه وتعالى- قَدَّم ذكر الموت على الحياة مُراعاةً للفاصلة واعتبارًا لسلامة النظم في قوله جل شأنه: (وأنه هو الذي أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا).
فسحيم -وَلا شكَّ- غير خارج عن هذه الصفة، وكثر الله خيره أنَّ الإسلام بقلبه وما زال يجري على لسانه.
وهل يَحُول مِثلَ هذا الأمر الهيِّن لضرورة اقتضاها الوزن مِنْ أن يُحرمَ مِنْ العَطَاء؟
أمَّا مشهد الوداع في قصيدة سحيم فهو قوله -مع ملاحظة حذف الأبيات التي قبلها مع تعلقها بالبيتين تعلقًا له مسيس بالمعنى؛ وذلك إيثارًا للاختصار:
.....
بأحسَنَ مِنهَا يَومَ قَالتْ: أرَاحِلٌ
مَعَ الرَّكبِ أمْ ثَاوٍ لَدينَا ثَمَانِيَا؟
فَإنْ تَثوِ لا تُملَلْ، وإنْ تَكُ رَاحِلاً
فهي تُزوَّدْ وَتَرجِع عَنْ عُميرةَ رَاضِيًا
فهي تقول: إن أقمتَ مَعَنا، فلن تبدو مِنَّا بوادر الملل أو الضيق بك، وإن عزمت على الرحيل زودناك وأكرمناك بما يَسرُّ خَاطرك؛ فترجع إلينا شَاكرًا راضيًا.