الغليبة: روح المكان
في أعالي جبال الأعبوس، تتربّع قرية تُدعى الغليبة، صغيرة بما يكفي لتُسمع فيها خطوات العابر، وكبيرة بما يكفي لتملأ القلب دهشةً وحنينًا.
لم أَمكُث هناك أكثر من عامين، ومع ذلك كانا كافيين ليبذر الزمن في صدر الطفل معنى الحياة.
المدرسة من حجر وتراب، أبوابها تصدر أنينًا خافتًا حين تُفتح، كأنها تشكو شيئًا لا أحد يُصغي له، ولكن فيها جمال لا يُوصف.
الطريق إليها لم يكن مرسومًا على خرائط، بل محفورًا في الأرواح... رائحة الطريق ما زالت تفوح.
كانت عمّتي خوزران تستيقظ قبل الفجر، لا لتُجهّز الفطور، بل لتُطعم البقرة وتحلبها.
تمضي يدًا مبللة بقطرات اللبن، وأخرى تمسح النوم عن عينيها.
وعلى الطريق، ألتقي كهرب؛ عجوزًا تملك بيتًا صغيرًا.
تمد لي خبزًا ساخنًا ملفوفًا بورق، لا تقول شيئًا... تكتفي بنظرة هادئة، كأنها وصية:
"اذهب، لكن لا تنسَ أن تأكل أولًا".
وألتقي المرشدي في القبة، ينتظر صاحب القات، يحمل عصاه، وكوفيته المميزة برأسه، وثوبه الأبيض كأنه شعاع الصباح، يحتضنني كأنني حفيدٌ.
في الصف، المدرسات يلبسن البسيط، ويضعن مقرمة حمراء كأنها تاج رمزي للحنان، وابتسامتهن لا تفارق وجوههن.
كان هناك نديم، يضحك بصوتٍ يجعل المقاعد الخشبية تهتز.
ورويدا، تركض دون أن تتوقف، كأنها تُلاحق شيئًا غير مرئي.
وسوزر، صامتة دائمًا، تنظر إلى السماء بكبرياء أكثر مما تنظر إلى الناس.
تتحدّث عن الطيور... بلغة لا يفهمها سواها، ولا أحد يُجادلها.
وهدي وفتحية، تلعبان بخيوط الشمس.
أما عمّتي انتصار، فكانت تُكرر علينا بطيبة:
"ذاكروا... اهتموا بدروسكم".
ما أجملها من عمّة!
مازالت رائحة البقرة، ورائحة دار الراكب، ورائحة الطريق الضيق نحو المدرسة تسكن أنفي،
وحتى الضحك... يصدر بلا سبب، كأنه عرفٌ جبلّي لا يُفسَّر.
ثم كبر الطفل... ورحل.
لكنه حين يقف أمام النافذة، يشاهد المدينة تنام، ويتذكّر الغليبة.
لا جبال هناك، ولا صوت خوزران، ولا خبز كهرب، ولا دار الراكب التي كانت تضحك حين نلعب بجوارها.
في صمت الغرفة، يمد يده نحو كوب الشاي، ينفث عليه بخفّة كما كانت تفعل خوزران...
ويهمس، كأنه يردّ على سؤال لم يُطرح:
"الحياة لا تُفهم يا خوزران... لكنها مازالت تُعاش".