عندما توسّعت دولة الخلافة الراشدة نحو بلاد الشام والعراق وفارس، تشير التقديرات إلى أن نسبة عرب الجزيرة لم تتجاوز 10% من سكان تلك الدولة الوليدة، دون وضوح في نسبة المسلمين ضمن هذا المكوّن العربي. ورغم هذا التباين السكاني، امتدّت الدولة الإسلامية بسرعة، حتى بلغت في العهدين الأموي والعباسي رقعة هائلة شملت جنوب أوروبا والمغرب ووسط آسيا. ويُقدّر بعض المؤرخين أن نسبة المسلمين في بدايات تلك الدولة كانت تتراوح ما بين 2% إلى 6% من إجمالي سكان الدولة، خاصة خلال المراحل الأولى للتوسع، وهو ما يعكس حقيقة لافتة: الانتشار لم يكن رهين القوة العسكرية بقدر ما كان نتاجًا لسياسة انفتاح وقبول الآخر واحتوائه وإدماجه في هيكل الدولة، بل والتعلّم منه ومن ثقافته وعاداته وتقاليده.
هذا التوسع السلمي يُعزى إلى السياسات التي انتهجتها الدولة الإسلامية في بداياتها، والمبنية على احترام عقائد الشعوب، وضمان حرية العبادة، وصون الدماء والأعراض والأموال. بل إن الدولة الإسلامية لم تفرض الدين على الأقاليم المفتوحة، بل تركت الباب مفتوحًا أمام الدعوة، والاختيار الطوعي، على عكس ما روّج له بعض المستشرقين لاحقًا من اتهامات قسرية لا تسندها الوقائع.
لقد كان سيف الدولة – في جوهره – موجّهًا لمواجهة السيوف الأخرى، لا لفرض العقيدة. وظلّ الإسلام ينتشر بالحكمة والموعظة، وبأخلاق التجّار والعلماء، وبالعدل الذي شعر به أبناء الأمم المختلفة، قبل أن يتغيّر هذا النهج تدريجيًا إلى الاعتماد على السيف والغلبة والفرض ورفض الآخر وإقصائه وزعم احتكار الحق والحقيقة، مع تصاعد النزاعات السياسية والمذهبية، فبدأت الانقسامات، وتوالت الهزائم، وانكفأ المشروع الإسلامي على ذاته، بل تحوّل إلى مشاريع متعددة ومتناقضة ومتصارعة، ومن خلال ذلك المخاض تأسست مدرستان في الفكر الإسلامي، هما مدرسة السيف ومدرسة الدعوة، والتي انبثقت منهما فيما بعد مدارس الإسلام السياسي المعاصرة.
وضمن هذا السياق التاريخي الأوسع، نشأت في اليمن مدرستان فقهيتان بارزتان في القرنين الثالث والرابع الهجريين، كلٌّ منهما مثّل نموذجًا مغايرًا في التمدد والتأثير. المدرسة الأولى أنشأها الإمام الهادي يحيى بن الحسين في صعدة، وارتبطت بمشروع سياسي ذي طابع عسكري قائم على فكرة الدولة لا الدعوة، واستند إلى منطق الغلبة والسيف في فرض سلطته داخل نطاق جغرافي محدود. ورغم ما لهذه المدرسة من فضل في إرساء بعض معالم الحكم، إلا أن تأثيرها بقي محصورًا داخل إطار جغرافي وقبلي ضيّق، ولم تنجح في الانتشار الفكري أو المذهبي خارج مناطق نفوذها في شمال الشمال، إلا عبر القوة في حقب تاريخية متفاوتة وقصيرة، قبل أن تعود للانكماش في معاقلها الحصينة والبعيدة.
أما المدرسة الثانية، فأسسها الإمام أحمد بن عيسى المهاجر بعد نحو نصف قرن تقريبًا في حضرموت، وتميّزت بمنهج مختلف تمامًا: لا سيف، بل دعوة؛ لا صدام، بل تواصل يتجاوز حدود السلطات والدول ولا ينحصر بهم أو عليهم. إذ اعتمدت هذه المدرسة على الدعوة من خلال التعايش مع البيئة الاجتماعية والدينية التي تنتقل لها، والانفتاح على الآخر، والتركيز على السلوك والأخلاق كأداة رئيسة لنشر الإسلام، لا الجدل ولا الصراع.
ومن خلال هذا المنهج، استطاعت المدرسة الحضرمية أن تتمدد من جنوب شرق آسيا حتى غرب أفريقيا، وأن تساهم في دخول الملايين إلى الإسلام على مدى قرون. ورغم عدم وجود إحصاء دقيق، تشير تقديرات بعض الباحثين إلى أن من تأثروا بهذا النهج ودخلوا الإسلام على يد دعاته قد وصل عددهم اليوم ما بين 700 إلى 900 مليون نسمة تقريبًا.
المفارقة اللافتة أن هذه المدرسة السلمية، التي لم ترفع السلاح لنشر الدين، كانت في طليعة المدارس الدينية التي ساهمت في تعبئة الشعوب للجهاد والنضال ضد الاستعمار الأوروبي، سواء في اليمن أو في آسيا وأفريقيا. في المقابل، لم تتجاوز مقاومة المدرسة الأخرى نطاقها الجغرافي المحدود، وهو ما يسلّط الضوء على الفارق الجوهري بين من يعتمد السلطة والسيف كأساس نظري لمدرسته، ومن يجعل الدعوة والتأثير من خلال السلوك الحسن والقيم والأخلاق، والقبول والتعايش مع الآخر، أساسًا له.
لسنا هنا بصدد المفاضلة بين المدرستين، فلكلٍّ منهما فضل في سياقه التاريخي، لكن المقارنة ضرورية لفهم الفروق المنهجية، واستخلاص الدروس اليوم من نقاط القوة والضعف في كل تجربة. إن قراءة التاريخ بهذه الروح التحليلية لا تمنحنا فقط وعيًا بالماضي، بل تبني لنا بوابة نحو مستقبل أكثر توازنًا، تتقدّمه الرحمة لا الشدة، والتواصل لا العنف، والعدل لا الإقصاء، من خلال الدعوة لا الإكراه، ومن خلال القبول بالآخر والتعايش معه واحتوائه والاندماج معه والتعلم منه.
ملاحظة: لا توجد أرقام وإحصاءات مؤكدة، لكن كلها تكاد تكون متقاربة ونسبة التفاوت محدودة جدًا، ولذلك تم اعتماد الأرقام والإحصائيات التي تبدو متناسبة مع المنطق وفقًا لبعض الشواهد والمؤشرات الواقعية.