في بلدان تمتلئ بالخنادق أكثر من المشاريع، وبالوعود أكثر من المدارس، يظهر سؤال وجودي:
هل يُدرك أولئك الذين يهدرون المال العام حقيقة ما يفعلون؟
وهل ينامون ليلًا وهم راضون عن أنفسهم؟
أم أن هناك آلة نفسية واجتماعية كاملة تبرر لهم ذلك الفعل، وتزيّنه حتى يصبح "واجبًا وطنيًا" في نظرهم؟
أولًا: الفصل النفسي -كيف يفكر عقل المهدر؟
عقل المهدر للمال العام -المسؤول أو المتنفذ- لا يعمل كالناس العاديين.
إنه يضع نفسه دائمًا في خانة "الاستثناء".
هو ليس فاسدًا… بل "يأخذ حقه الطبيعي"!
لا يسرق… بل "يتقاضى مقابل سهره وتعبه"!
لا ينهب… بل "يستثمر في نفسه ليرتقي بخدمة الوطن"!
هذا النوع من التفكير يُعرف في علم النفس بـآليات الدفاع النفسي، مثل:
الإنكار (Denial): يرفض الاعتراف بأن هناك فسادًا أصلًا.
التبرير (Rationalization): يخترع أسبابًا أخلاقية لفعل غير أخلاقي.
الإسقاط (Projection): يتهم الآخرين بالفساد ليغسل يديه من التهمة.
وفي داخله، يرى نفسه كبطل مأزوم في وطن لا يقدّر العظماء. لهذا تجد بعضهم يشتكي في مجالسه من "قلة الوفاء"، وهو غارق في البذخ على حساب ميزانية وزارة منهارة!
ثانيًا: الفصل الاجتماعي -بيئة تُكافئ المهدر
لو عاش هذا المسؤول في بيئة تحاسبه، لربما تردّد قبل أن يطلب طقم كراسي بقيمة نصف مدرسة.
لكن في بيئة تعيش على ثقافة "من سبق أكل النبق"، فإن المجتمع نفسه يتحوّل إلى آلة تصفيق لا إلى ضمير حي.
كلما ازداد فساد المسؤول، زاد حوله المصفقون.
كلما اشترى ساعة فاخرة، كتب أحدهم منشورًا عن "ذوقه العالي".
إذا نهب، قيل إنه "شاطر يعرف من أين تؤكل الكتف".
وهكذا يتحول السلوك الجمعي إلى شريك في الجريمة، إما بالصمت، أو بالتطبيع، أو بالمشاركة.
ثالثًا: هل هم راضون عن أنفسهم؟
نعم، وغالبًا جدًا.
لأن الرضا هنا لا يعتمد على الأخلاق... بل على:
المقارنة بمن هو أكثر فسادًا: "أنا مش زي فلان!".
مكافأة الواقع: "ما دام محدش حاسبني، إذن أنا صح!".
وهم الإنجاز: "أنا بنيت لي فلة، علّمت أولادي، نجوت من الحرب... إيش تبغى أكثر؟".
المشكلة أن بعضهم يبدأ بالنهب كوسيلة للبقاء... ثم يتحول مع الوقت إلى صاحب قناعة راسخة أن المال العام مال مهدور أصلًا، ومشكلته الوحيدة أنه لم يصل إليه أسرع!
رابعًا: الخلل الأخلاقي -عندما يموت الضمير "بالقسط"
الضمير لا يموت فجأة، بل بالتقسيط.
أول مرة يختلس، يشعر بتأنيب.
ثاني مرة، يقل الألم.
ثالث مرة، يتحول التأنيب إلى ضحكة خفيفة، و"نكتة سياسية" في مجلسه.
بعد سنة: الضمير؟ ما بقي منه إلا صورة في دولاب الذكريات!
خاتمة: حين يصبح الوطن مزرعة
المهدرون لا يعيشون أزمة ضمير… بل أزمة رؤية.
لا يرون الوطن كوطن، بل كمزرعة مستباحة.
يرون المواطن ككائن شاحب يصلح فقط للتصويت والتصفيق، لا للمساءلة أو الاعتراض.
لكن السؤال الأهم: هل نستطيع معالجة هؤلاء؟ أم علينا فقط الحجر عليهم... كما يُحجر على المصابين بعدوى خطيرة؟
ربما العلاج الوحيد يبدأ حين يتحول الصمت الشعبي إلى سؤال يومي:
"من يدفع ثمن هذه المهزلة؟".