صنعاء 19C امطار خفيفة

المناطقية داء ينهش كينونة الإنسان

من الطبيعي أن يتجلى التعلق بالمكان في أعماق النفس البشرية كحالة وجودية تتجاوز الجغرافيا إلى بعد أعمق، حيث تصبح الأرض ذاكرة وملاذًا ومسرحًا للعاطفة.

 
لكن هذه العلاقة، حين تتعكر بالمناطقية، تتحول من حب فطري إلى تعصب غريزي قاتل، يحول المكان من فضاء رحب يتسع للإنسان إلى قيد يحاصره داخل حدود واهية.
 
المناطقية عين لا ترى إلا ذاتها، ولسان لا يتقن إلا مدح نفسه وذم الآخرين، ويد ترفع الجدار بدل أن تمد الجسور، وهي تشرنق في القريب، ونفي للبعيد، وعجز عن تجاوز الهويات الضيقة نحو رحابة الإنسانية.
 
تحت وطأتها، يختنق العقل داخل أسوار الانتماء الأول، ويتقلص الأفق حتى يصبح مجرد بقعة محدودة تحصر الإنسان بمكان ولادته ولهجته وسلالته.
 
والمأساة الحقيقية ليست في أن يكون الإنسان متمسكًا بتراثه وخصوصيته، بل في أن تتحول هذه الخصوصية إلى جدار يمنع التلاقي، وقيد يكبل الأفق عن التطلع إلى ما هو أبعد من خريطة الصراعات الصغيرة.
 
والمناطقية في جوهرها مرض اجتماعي خفي، يندس في الأحاديث العابرة، ويتكاثر في أزقة الوعي الجمعي حتى يصبح عقيدة غير معلنة، تمزق الأوطان على صمت طويل.
 
أليس الأولى أن يكون انتماؤنا الأول للإنسان فينا، قبل أن يكون للحي والقرية والمدينة؟ وهل يعقل أن يختزل المرء ذاته في مساحة جغرافية ضيقة، وتعصب مقيت، يحجب رحابة فكره وأفق تطلعاته؟
 
ما يجري بين الحين والآخر من دعوات مناطقية ونقاشات يصاحبها تبادل للسب والاتهامات، يكشف عن مدى تغلغل هذا الداء في النفوس، وعن غياب الوعي بخطورته.
 
والأسوأ من كل ذلك، أن تستدرج هذه النقاشات وقت واهتمام المثقفين، فتستهلك وعيهم في معارك عبثية، وتُشغلهم عن قضايا أكثر عمقًا وأهمية، وبناء الوعي الجمعي على أسس إنسانية متينة.
 
هذا المنطق لا يصنع إلا مزيدًا من التشرذم، وهو ما يستدعي دورًا أكثر فاعلية للمثقفين في مواجهة هذا العبث، من خلال نشر وعي حقيقي يعيد الاعتبار لقيم التعايش والاحترام المتبادل، وينتشل العقول من مستنقع العصبيات الضيقة إلى رحابة الانتماء الإنساني الأوسع.
 
تبدو المناطقية كجرح مفتوح في جسد الوطن، جرح يذكر بأن الخلافات المصطنعة تذوب حين يحضر الصفاء، وبأن الإنسان أكبر من الخرائط، وأن الأوطان لا تبنى إلا حين تتجاوز النفوس سجن الانقسامات إلى رحابة التعايش والتسامح.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً