صنعاء 19C امطار خفيفة

"Kapellplatz" كابيلبلاتز: تمسكوا بالسلام ..الوطن، حقيبة

2025-06-24
"Kapellplatz" كابيلبلاتز: تمسكوا بالسلام ..الوطن، حقيبة

"كان "ما بعد الحرب" زمنًا أسطوريًا، إذ لم يعد هناك فرق إن مر مائة عام، أو مائتان، أو ثلاثمائة، باختصار لقد حدث الكثير من الأشياء، في فترة "ما بعد الحرب"، فجنت ساعاتهم العقلية في ظل التوتر. كل شيء جن، كل شيء تصدع، وقطع إربًا، انقسم المكان والزمان إلى ما "قبل" وما "بعد"، وحياتهم إلى "هنا" و"هناك"، أمسوا فجأة دون شهود، دون والدين، دون عائلة، دون أصدقاء، وحتى دون المعارف اليوميين الذين نعيد تشكيل حياتنا في ضوء وجودهم باستمرار" (من رواية "موطن الألم"، دوبرافكا أوجاريسك، ص148).

 

**

مرة أخرى في رحاب المسرح بساحة "كابيلبلاتز -دارمشتات" المفتوح على الألم والتذكر وحوامل الإنسان بما هو إنسان، السلو والمطبات، الانكسار واللاتوازن، والعبث اللامتناهي، سيرورة إنسان ووطن معًا، نلتم ونفترق أيضًا معًا، نحن لبعض ونكره بعضًا أيضًا، وطن كنا نعتقد أنه الوجود الخالص والحان علينا، وفي غمضة عين، يقذف بنا خارج الحياة والحلم، حفر لنا خنادق، وقال، بل لم يقل، كونوا هنا صاغرين، ميتين، أنتم لاشيء، صرصور "كافكا" أجدى منكم؟

هل أنت -الوطن- من يتفنن بعذاباتنا السرمدية؟ أم القائمون عليك؟ أم اللعنة الأبدية لموروث السماء والأرض الملتف حول أعناقنا ما بين موت وموت، خلف هذا الألم والتناثر، يبقى السؤال المحير حتى اللحظة: لماذا يحدث كل هذا؟!

كانت ساحة "كابيلبلاتز" تحاكي الوخز الأليم للماضي والحاضر المفتوحين على الجرح النازف للكنيسة التي كانت عليه ودمرت، لتصبح ساحة لذكرى ضحايا الحرب العالمية الثانية، ما بين صمت وصوت كلاهما احتجاج، وحكمة جريحة شاهدة تتعالى بأفق معنى الإنسان: ألا يتكرر.

بصمت وأمل إنساني كبير أُثثت الساحة بمجسمات ونُصب فنية موجعة من حجر وحديد وتراب وأشجار وزهور ناطقة أيضًا، بـ: تمسكوا بالسلام، انسابت القصص وحكايات من أنس وأحلام وانكسار، ثم أمل مع حلم لا ينطفئان، صاحبتهما الموسيقى والصمت معًا، استعراضات مشهدية تحاكي الإنسان في ظل الحرب والدمار والهجرة واللجوء، الفقد، ونوافذ مفتوحة على الفضاء... الخ من قاموس الإنسان.. وحضرت بقوة، الحقيبة بكل ثقلها، يجرها المخذولون، "لقد كانوا يجرون وطنهم السابق خلفهم مثل قطار"، كما كتبت دوبرافكا.

 

التماس مع الذكرى

 

"ألا يتكرر"، "تمسكوا بالسلام"، عبارتان لم تنحتهما الأيقونات على الجدران فحسب، بل أصبحتا جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الحية، لما طال العالم وألمانيا ودارمشتات من هوائل الحرب العالمية الثانية، وأخص "دارمشتات -مدينتي- وما حاق بها في ما تسمى "ليلة النار" في 11-12 سبتمبر 1944، عندما قصفتها قوات التحالف بقذائفها الحارقة، ودمرت أحياء بكاملها ليسقط 12 ألف قتيل.

حتى الخدوش النازفة التي أتقن الفنان توماس دوتنهوفر تشكيلها على ظهر المنحوتات، تطالعنا بحجم الندوب والجراح التي تنز في دواخلنا، خصوصًا عند سرسبة الذكريات، أو كما قالت الكاتبة -أعلاه- حياتنا "قبل" و"بعد"، "هنا" و"هناك".

كابيلبلاتز لم تكن ذات يوم معمارًا دينيًا -كنيسة، بل شاهدة على الفناء العبثي لها وللسكان، وبرغم الجرح الغائر، فإنها لا تنسى أن تربت بحنو على الضحايا: ارقدوا بسلام، محذرة من تكرار المأساة،: القتل، التهجير والاقتلاع، وألا يتكرر حمل الحقائب والتيه في الأرض والبحر، وداعية لتبريد الأقدام حتى تنعم بالهدوء والسكينة، ألا يظل الألم حرًا يتجول في أرواحنا، مجسمات تحاكي أرواحنا، راسمة ملامح وصور الغياب، لطفل وامرأة ورجل وعاجز، وحيوان أليف ارتأى أن يستكين في حضن صاحبه، لا أن يمخر الأرض والبحر مثل أهله، طفلة بلا لعب تشتاق النجوم والشمس وحكاية الجدات، وتناجي السماء، اشتياقًا لطعم "خبز هانس"، كما تحكي جدتي بسرد لا ينتهي، مختتمة،: كفوا عن القتل والقتال باسمنا!

جسد الممثلون والفنانون، عبر الفضاء المكاني الرمزي، العديد من الرموز والتعابير البصرية والذهنية، كلامًا وشعرًا وحكاية، وموسيقى، وتأملًا، وحقائب، وأقدامًا مخذولة جسدتها لعبة، هي الأرض المهتزة، المكان والتماثيل لرجل منكسر، صامت، وصليب، وعمود بارد نلوذ به جميعنا، يوحد الألم والأمنيات بأن ينتهي هذا الرحيل المجنون.

 

حقيبة ومتحف

 

ذلك التمثال المنكسر، بلا وجه وملامح، هو الـ"نحن" المنكسرة والممزقة، نحمل الحقائب الثقيلة المليئة بأشياء عشوائية خطفت في لحظة فرار وفجيعة من البيت -الوطن -مسقط الرأس، ومعها الحمولة الأكثر ثقلًا: الذكريات، التي شكلت: الذاكرة الجمعية.

أعادتني مشهدية الحقيبة ووجه الفرار واللاتوازن، وو، إلى متحف الهولوكوست -واشنطن، 2008، كنت التقطت بعض الصور، لكنها تاهت في اليمن مثلما تهنا، وحقائب أخرى شاهدتها في "دماج" -صعدة، وصور الحرب ودمار البيوت في "الجحملية" -تعز، لم أستطع أن أصورها، خشية من أعين المليشيات.

ثم الصور الفوتوغرافية المنتشرة للاجئين والناجين والغرقى، وحقائب التيه في الجبال والصحارى، ولا أنسى حقيبة هروبي وابنتي مريم، 26 مارس 2017، وكيف نجونا من عيون المليشيات المتناثرة ما بين صنعاء وعدن.

هل حقًا تحولت حياة الإنسان السيزيفي إلى حقيبة، خصوصًا مع هذا الخراب الذي يرتد إلينا، ويتكرر؟ ألم نقطع مع ما قالته لنا ذاكرة الضمير الجمعي: "ألا نكرر، تمسكوا بالسلام"؟ للأسف، حتى الساعة مازال الإنسان في مرمى الطلقات والانفجارات يلوذ بالحقيبة، ويكرر: إن أنقذتنا حقائبنا في هذا الطريق، فلن ننجو من مضيق وبحر آخر.

أوطان من جحيم، تجعلنا نتحسس حقائبنا التي كنا نسيناها، رميناها، أو أخفيناها في البدروم، أو تحت السرير، ونكافح بقوة لترميم ذواكرنا.

إنها العبثية المفرطة ومجانية النيل من الإنسان الهش في ظل توازنات الرعب بالسلاح والمفاعلات النووية، يتعاظم خوفنا وترقبنا وقلوبنا مفتوحة على سؤال: متى سيغادر هذا الوحش؟ ليس ثمة خيار آخر أمامنا غير التمسك وإلى آخر رمق بما تفيض به المسرحية، السلام والحرية، ولا ملجأ لنا سوى العمود البارد نلتم حوله ونلوذ به من وحشية ما يحدث، يرمم نفوسنا الهشة، ويعيد لنا أملًا بأن ثمة أشياء وتفاصيل صغيرة تستحق أن نحياها،: لمتنا، ابتسامتنا، أحضان وعيون تناجي أرواحنا وكل ما حولنا، بحكمة نحتت من حقيبة وإنسان: "Friden beginnt im kleinen"، نعم "السلام يبدأ من التفاصيل الصغيرة"!

هيا لنعل صوت الموسيقى...

 

**

شكرًا: للفنانين الأعزاء: ماكس أوجنفيلد، ناديا سوكوب، كريستوفر دانيلز، منظمة Paso، وللزملاء الذين عرضوا قصصهم وحكاياتهم بتفرد، تعزيزًا لثقافة التنوع والتعايش.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً